كتب زياد عبيد:
عبر التاريخ توافقت الدول والمجتمعات على مجموعة من الأعراف والممارسات والأحكام التي مهدت لصياغة قواعد وقوانين منظمة للتفاعل وممارسة العلاقات الدولية المختلفة.
وعلى الساحة الدولية صاغت الأمم والدول قوانين وأحكام تراعي المتطلبات الأساسية لتلك التفاعلات بهدف الحفاظ على أكبر قدر من النظام والعدالة والسلم والأمن والاستقرار بين الشعوب والمجتمعات. ونتيجة لما أدت اليه الحرب العالمية الثانية من دمار في الكثير من البلدان وانهيار المجتمعات وخسارة ملايين الضحايا من القتلى والمصابين، أنشئت منظمة الأمم المتحدة بهدف صياغة قانون دولي يكفل الحد من الصراعات وأثارها المدمرة ويعالج المظالم التي عانت منها الشعوب والمجتمعات خلال حقب من الاستعمار والاحتلال والاستغلال. ولكن سرعان ما ظهرت استثناءات في تطبيق القانون الدولي ونشئ صدع استمر في الاتساع لصالح الدول الكبرى والقوى العظمى على حساب الدول الأصغر والأضعف.
وتمثل اختلال تطبيق القانون الدولي في صورة التحرك بدون مرجعية قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها، واستخدام حق النقض “الفيتو” في التصويت على القرارات التي لا تناسب مصالح الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن أو الدول التابعة لها، وفرض منطق “القوة تصنع الحق” والمنتصر يصيغ القانون بالإضافة لغياب إطار ملزم لتطبيق القرارات الأممية المتخذة بالأغلبية وتفاوت الالزام بتطبيق هذه القرارات.
هذا ويُعتبر القانون الدولي مجموعة القواعد والمبادئ التي تنظم العلاقات بين الدول والكيانات الدولية الأخرى. ويهدف إلى تحقيق الاستقرار والعدالة في العلاقات الدولية. ومع ذلك، يُعتبر تطبيق القانون الدولي غير متساوي بين الدول القوية والدول الضعيفة.
رفض القرارات وإسقاطها في مجلس الأمن منذ وضع الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية تصميم لمنظمة الأمم المتحدة قرروا أن تتدرج آليات اتخاذ القرار فيها بحيث تصبح آلية مجلس الأمن أعلى آلية لاتخاذ القرارات الهامة والواجب تنفيذها بقوة القانون الدولي. وأتاح المؤسسين آلية الجمعية العامة كأداة تصويت (شكلية) بنظام الأغلبية تعبر عن التوجهات العامة للدول إزاء القضايا العالمية الكبرى لكن قرارتها غير ملزمة وغير واجبة التنفيذ. وبذلك تكون داخل المنظمة معياران واضحان يعبران عن آراء الدول الأعضاء لكنهما في أحيانا عديدة لم يتماثلا أو يلتقيا وخاصة حول قضايا محورية وحول أفكار ومبادئ معنية بالاحتلال وحق مقاومته بالإضافة لخلاف كبير فيما يتعلق بمفاهيم كالإرهاب وممارسة بعض الدول لأساليبه.
وأدى هذا الشق بين رأي الأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة ورأي الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن إلى تنفيذ القرارات التي تصطف مع مصالح الأعضاء دائمي العضوية فقط! أما القرارات التي تمس أي من مصالح تلك الدول فإما ترفض (تسقط) أو لا تنفذ! ومع مرور الوقت كثرت ممارسة رفض القرارات وأصبح الرفض يشكل هاجسا كبيرا فيما يتعلق بمنظومة العدالة الدولية. والجدير بالذكر أن مجلس الأمن شهد ممارسة الدول الدائمة العضوية لما يقرب من 293 رفض للقرارات (فيتو) كان للاتحاد السوفيتي سابقا ووريثته روسيا أكبر نصيب منه تلتها الولايات المتحدة الأمريكية وكانت الصين أقل الأعضاء رفضا للقرارات.
حق يراد به باطل!
شكل حق رفض القرارات من قبل أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن خيبة أمل كبيرة للدول العربية التي عانت من تصويت متحيز ضد قضاياهم وخاصة فيما يتعلق بقضيتهم المحورية “فلسطين”، حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا تبادلوا الأدوار فيما بينهم في افشال القرارات التي كانت تقدم لصالح الكثير من الموضوعات العربية.
وتشير الإحصائيات في هذا السياق أن مجلس الأمن شهد 293 استخدام لحق الرفض(فيتو) من قبل الأعضاء الخمس الدائمين كان من ضمنها 49 استخدام أمريكي لمساندة إسرائيل ومنع اتخاذ قرارات تدينها أو تضمن الحقوق الفلسطينية. “منذ عام 1970، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أكثر من أي عضو دائم آخر في مجلس الأمن، غالبًا لمنع القرارات التي يُنظر إليها على أنها تتعارض مع مصالح إسرائيل، في عام 2019، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض لمنع مجلس الأمن من اتخاذ قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية كما فعلت في قرار عام 2023 كان سيدعو إلى “هدنة إنسانية” بعد أسبوعين تقريبًا من الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة في 18 أكتوبر.”
كما استخدمت المملكة المتحدة حق النقض 29 مرة. وكانت المرة الأولى التي استخدمت فيها هذا الحق أثناء العدوان الثلاثي على مصر (بريطانيا، فرنسا، إسرائيل) وما أسموه بأزمة السويس في 30 أكتوبر 1956.
وفيما يتعلق بالتصويت الفرنسي، فإن فرنسا استخدمته خمس مرات في مواجهة موضوعات تمس العالم العربي، مرتان في 30 أكتوبر 1956 ومشاركتها في العدوان على مصر، ومرة ضد انضمام جزيرة مايوت لجزر القمر في 6 فبراير 1976 حول النزاع بين جزر القمر وفرنسا في مايوت كما استخدمته في21 أبريل 1986 حول شكوى ليبية ضد هجوم أمريكي.
وفي 11يناير 1989 حول شكوى ليبية ضد إسقاط الولايات المتحدة للطائرات ليبية. وبذلك يمكن احتساب أكثر من 55 فيتو من إجمالي من 293 تمت ضد قضايا لصالح الدول العربية أي ما يقرب من 19% من هذا الحق المتحيز المراد به باطل. ولكن الدول العربية وجدت بعض الدعم لقضاياها من الاتحاد السوفيتي سابقا ثم من روسيا والصين.
لقد زاد استخدام الصين لحق النقض بشكل كبير منذ عام 2011، وكان الصراع في سوريا هو السبب الرئيسي وراء ذلك ومؤخرا، في الثاني والعشرين من مارس/آذار، استخدمت الصين، بالإضافة إلى روسيا، حق النقض ضد قرار اقترحته الولايات المتحدة يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة.
وانتقدت الصين النص المقترح لعدم معارضته الواضحة للهجوم العسكري الإسرائيلي المخطط له في رفح، محذرة من العواقب الوخيمة لذلك. ووفقا لممثل الصين في الأمم المتحدة، فإن الولايات المتحدة كانت تعرقل صوت المجلس من خلال استخدام حق النقض ضد جهوده الرامية إلى تعزيز وقف إطلاق النار الفوري في أربع مناسبات. ولو تم تبني مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة، لكان من شأنه أن يسمح باستمرار عمليات القتل في غزة وانتهاكات القانون الدولي. وأكد الممثل أن “الصين لا تتردد في ممارسة حق النقض ضد مشروع قرار من شأنه أن يخلف مثل هذه العواقب الوخيمة”، مضيفا أن تصرفات وفده “يمكن أن تصمد أمام اختبار التاريخ”.
سياق العمل خارج الشرعية الدولية
فيما يتعلق بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، يُعتبر أن الدول العظمى لا تلتزم دائمًا بمعايير القانون الدولي. على سبيل المثال، في عام 2003، غزت الولايات المتحدة العراق دون إذن من مجلس الأمن، مما يُعتبر انتهاكًا للقانون الدولي. وفي عام 2011، قامت فرنسا والمملكة المتحدة بالتدخل العسكري في ليبيا تحت غطاء قرار مجلس الأمن 1973، ولكن دون إذن من مجلس الأمن للقيام بعملية عسكرية.
في المقابل، غالبًا ما تُفرض العقوبات على الدول الضعيفة التي تنتهك القانون الدولي. على سبيل المثال، في عام 2011، فرض مجلس الأمن عقوبات على ليبيا بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وفي عام 2014، فرض مجلس الأمن عقوبات على روسيا بسبب تدخلها في أوكرانيا.
منطق “القوة تصنع الحق” Might Makes Right
هذا المنطق أو المبدأ يشير إلى أن الدول القوية قد تستخدم قوتها لفرض إرادتها على الدول الضعيفة، مما قد يؤدي إلى انتهاك مبادئ العدالة والمساواة في القانون الدولي. ومع ذلك، فإن القانون الدولي يُعتبر إطارًا عامًا يُفترض أن يلتزم به جميع الدول، بغض النظر عن قوتها.
لكن التطبيق الفعلي لهذا القانون يختلف حسب موازين القوى الدولية والمصالح السياسية. تطبيق القانون الدولي والتزام الدول العظمى بحيثياته يعتمد على مجموعة من القواعد والمعاهدات والاتفاقيات التي تُنظم العلاقات بين الدول. وتشمل هذه القواعد مبادئ مثل سيادة الدول، وحظر استخدام القوة، واحترام حقوق الإنسان، والالتزام بالمعاهدات الدولية. ومع ذلك، فإن التزام الدول العظمى بهذه القواعد ليس دائمًا ثابتًا، وغالبًا ما يتأثر بالمصالح السياسية والاستراتيجية.
وفي ظل تصريحات أو أفعال تتعلق بضم أراضٍ أو السيطرة عليها دون توافق دولي (مثل غزة أو جرينلاند أو قناة بنما)، فإن ذلك سيؤدي إلى عواقب خطيرة على النظام الدولي من حيث الأمن والاستقرار والسلم. وفيما يلي بعض الآثار المحتملة:
تقويض النظام الدولي القائم على القواعد: النظام الدولي الحالي يعتمد على احترام القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات، مثل ميثاق الأمم المتحدة الذي يحظر استخدام القوة لضم الأراضي أو انتهاك سيادة الدول.
– تجاهل الولايات المتحدة لهذه القواعد قد يشجع دولًا أخرى على اتباع نفس النهج، مما يؤدي إلى تفشي الفوضى وانهيار النظام الدولي القائم على القوانين.
تآكل مصداقية المنظمات الدولية: المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن ستواجه أزمة مصداقية إذا لم تتمكن من الرد على انتهاكات القانون الدولي من قبل قوة عظمى مثل الولايات المتحدة. قد تفقد هذه المنظمات قدرتها على فرض القرارات أو حل النزاعات، مما يضعف دورها في حفظ السلم والأمن الدوليين.
تصاعد التوترات والنزاعات الدولية: تصرفات الولايات المتحدة قد تثير ردود فعل عنيفة من الدول الأخرى، خاصة تلك المتضررة مباشرةً (مثل الدنمارك في حالة جرينلاند، أو دول أمريكا اللاتينية في حالة قناة بنما).
– قد يؤدي ذلك إلى تصاعد التوترات وحتى نشوب نزاعات مسلحة، خاصة إذا شعرت دول أخرى بأنها مضطرة للدفاع عن مصالحها أو أراضيها.
تأثير على التحالفات الدولية:
قد تفقد الولايات المتحدة ثقة حلفائها التقليديين إذا انتهكت القوانين الدولية بشكل صارخ.
– الدول الحليفة قد تبدأ في إعادة تقييم تحالفاتها، مما قد يؤدي إلى تغييرات جيوسياسية كبيرة، مثل تقارب دول أخرى مع قوى منافسة (مثل الصين أو روسيا).
تأثير على الاستقرار الإقليمي:
في حالة غزة، قد يؤدي أي محاولة لضمها أو السيطرة عليها إلى تفاقم الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، مما يزيد من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
– في حالة جرينلاند، قد يؤدي ذلك إلى توترات مع الدنمارك وحلف الناتو، مما يؤثر على الاستقرار في منطقة القطب الشمالي.
تأثير على الاقتصاد العالمي:
السيطرة على قناة بنما، على سبيل المثال، قد تؤدي إلى اضطرابات في التجارة العالمية، حيث تعتبر القناة ممرًا حيويًا للنقل البحري.
– قد تفرض دول عقوبات أو تقييدات تجارية على الولايات المتحدة، مما يؤثر على الاقتصاد العالمي.
التأثير على حقوق الإنسان والقانون الإنساني:
انتهاك القانون الدولي قد يؤدي إلى انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، خاصة في المناطق التي يتم ضمها أو السيطرة عليها. – قد يتم تجاهل حقوق السكان المحليين، مما يؤدي إلى أزمات إنسانية.
التأثير على الشرعية الدولية: قد تفقد الولايات المتحدة مكانتها كقائدة للنظام الدولي القائم على القواعد، مما يفتح الباب أمام قوى أخرى لملء الفراغ، مثل الصين أو روسيا، والتي قد تروج لنماذج مختلفة من الحوكمة العالمية.
التأثير على الرأي العام العالمي:
قد يؤدي ذلك إلى تآكل الدعم الشعبي للولايات المتحدة في العديد من الدول، مما يؤثر على نفوذها الثقافي والسياسي.
إن تجاهل القوى العظمى للقوانين والمعاهدات الدولية سيهدد الاستقرار العالمي ويضعف مصداقية المنظمات الدولية، وقد يؤدي إلى تصاعد النزاعات وانهيار النظام الدولي القائم على القواعد. هذا النهج قد يفتح الباب لفوضى عالمية، حيث تتصرف الدول وفقًا لمصالحها الضيقة دون مراعاة للقانون الدولي أو حقوق الدول الأخرى.