الإنسان مجرد رقم في مسرحية “مائة وثلاثون قطعة”

“مائة وثلاثون قطعة” عرض مسرحي مصري، يستدعي قصة اختطاف الأفارقة، ما بين القرنين الـ16 والـ19، والاتجار بهم كعبيد، وسحقهم والتنكيل بهم، والتعامل معهم باعتبارهم مجرد أرقام، لا باعتبارهم بشراً.

يبدأ العرض المسرحي المصري “مائة وثلاثون قطعة” بمشهد مهيب ومبهر: تهيمن على فضاء المسرح سفينة ضخمة تشغل الجزء الأكبر من مساحته، ليكون السؤال ما مصير هذه السفينة في العرض، وهل جاء تصميمها كنوع من الإبهار فحسب، أم أنها ستؤدي وظيفة ما، مهمة داخل العرض؟ وكيف سيتعامل معها مصمم الديكور محمد طلعت، كيف سيصرف هذا العفريت الذي استدعاه، فالمثل الشعبي المصري يقول “إللي حضر العفريت لازم يصرفه”؟

لا يلبث المشاهد أن يرى هذه السفينة وقد تفككت إلى سجن أو بيت أو يابسة أو قاعة محكمة، ثم تعود لتصير سفينة مرة أخرى وهكذا، وعبر ميكانيزم بسيط يقوم عليه الممثلون أنفسهم، وبشكل سريع ومحسوب بدقة شديدة. إنه الخيال والقراءة الواعية لنص العرض، والتفكير في حلول عملية وبسيطة، وربما غير مكلفة مادياً، فالعرض تقدمه فرقة مستقلة ” بالطو” وليس إنتاجاً تابعاً للقطاع الخاص، أو تابعاً للدولة، أي أن الإمكانات المادية بسيطة، فكيف يساعدك خيالك، ووعيك، على إحداث كل هذا الإبهار وبكلفة مالية محدودة؟

كان الديكور هنا بطلاً بامتياز، أدرك مصممه، وبالتأكيد معه المخرج محمد فرج، أهمية التوفيق بين وظيفته الجمالية، كأحد عناصر السينوغرافيا، التي تسهم في تشكيل صورة العرض، وبين وظيفته في مساعدة المشاهدين في فهم العمل المسرحي، والتعبير عن الخصائص المميزة للمسرحية والتعبير، كذلك عن روح العناصر البارزة في النص من خلال الصورة واللون.

قصة حقيقية

النص كتبه طه زغلول، وذكر في كراس العرض أنه مأخوذ عن قصة حقيقية، وإن لم يشر من قريب أو بعيد إلى مصدر القصة، لكنها في كل الأحوال تدور في فترة مظلمة من تاريخ أفريقيا، حين ازدهرت تجارة العبيد بواسطة الأوروبيين، واختطف ملايين الأفارقة على يد عصابات للاتجار بهم ما بين القرنين الـ16 والـ19، فأجبر نحو 12 مليون أفريقي على عبور المحيط الأطلسي واقتيدوا كعبيد تم بيعهم في أسواق القارة الأميركية بهدف استغلالهم لإنجاز المهمات الشاقة في الحقول والمناجم والمنازل.

ومن المعروف أن الأمم المتاجرة بعبيد الأطلسي الرئيسة، كانت مرتبة بحسب ضخامة تجارتها: البرتغالية والبريطانية والفرنسية والإسبانية والإمبراطورية الهولندية والدنماركية، إضافة إلى النرويجية على فترات متقطعة. لم ينشغل كاتب النص بكل هذه الأحداث المعروفة، التي جاء توظيفها عابراً، أو كخلفية لموضوعه، واستوحى منها قصته، التي يريد أن يبعث رسالته من خلالها، رسالته التي تخص هنا والآن.

خسارة القطع

يدور العرض حول السيد آدم، صاحب السفينة، (لعب دوره ماجد لطفي)، وزوجته جيسكا (ميار الطرابيلي)، اللذين يتقدمان إلى القاضي البريطاني إليوت (أحمد حسونة)، للحصول على مبلغ التأمين من السيد كيفين (عبدالرحمن زينهم)، ومساعدته كاي (منار رشاد)، إذ فقد السيد آدم 130 قطعة من القطع التي حمل بها سفينته المؤمن عليها.

نكتشف من الحكاية أن هذه القطع ما هي إلا 130 أفريقياً اختطفوا من إحدى القرى ضمن مجموعة كبيرة، وأثناء إبحار السفينة كادت المؤن أن تنفد، ولم يجد صاحبها حلاً إلا إلقاء هذا العدد في مياه المحيط، لاعناً حظه العسر، الذي اضطره إلى ذلك، لا بوازع أخلاقي، ولكن بحسابات تجارية بغيضة، إذ خسر، بحسب وصفه، 130 قطعة كانت ستجلب عليه ربحاً وفيراً، فأراد تعويض ذلك بالحصول على مبلغ التأمين، باعتبار أن جزءاً من بضاعته فسد.

بعيداً من القضية التي يتداولها القاضي، والاتهامات المتبادلة بين أطرافها، وانتهائها بعدم تحميل صاحب شركة التأمين شيئاً من الخسائر، بعد أن اعترف خادم التاجر بقيامه بإلقاء “القطع” في مياه المحيط، فإن العرض يطرح مفارقته الإنسانية، التي تتعلق بعنصرية الغرب، وزيف ادعاءاته عن الأخلاق واحترام الآخر، وغيرها من المقولات الإنشائية التي لا تصمد أمام أي اختبار مهما كانت بساطته. الأمر طبعاً ليس على إطلاقه، فالغرب لا يعدم كتاباً ومفكرين وعلماء، بل ومواطنين عاديين إنسانيين، أصحاب نزعات أخلاقية، وهو ما نلمسه في مواقفهم من حرب الإبادة في غزة، وإن ظل غالب الساسة ورجال الأعمال على النزعة نفسها العنصرية البغيضة.

مبرر الاستدعاء

إذاً هناك مبرر لاستعادة مثل هذه القصص، في هذه اللحظة تحديدا، اللحظة التي يباد فيها الفلسطينيون تحت سمع وبصر العالم كله، بل وبمباركة قوى عظمى، فما التعامل مع الأفارقة المختطفين باعتبارهم مجرد قطع، وسحقهم وإذاقتهم شتى صنوف التعذيب والتنكيل، إلا معادلاً لما يحدث في فلسطين المحتلة، ومعادلاً كذلك لنهب ثروات الدول الفقيرة والمغلوبة على أمرها.

بلغت المفارقة ذروتها عندما قررت زوجة تاجر العبيد القيام بتحنيط عدد من المختطفين، لتزين منزلها بهم، بل وأقنعت زوجها بجدوى ذلك اقتصادياً، إذ يمكن بيعهم بأسعار عالية. الغريب أن هؤلاء الذين اختيروا، ولأنهم لا يعرفون معنى التحنيط، ويرون أنه، كما أقنعتهم السيدة، يعني الأبدية بالنسبة إليهم، كانوا سعداء بالأمر، حتى إن غيرهم، ممن لم يقع عليه الاختيار، ألح في طلب الانضمام إليهم لينعم بالحياة الأبدية هو الآخر.

امتازت اللعبة المسرحية بالقدرة على سرد الوقائع بطريقة سلسة ومشوقة، من خلال فكرة الاسترجاع (فلاش باك) التي أسهم تصميم السفينة في تحقيقها بسهولة ويسر، ومن دون فجوات تعرقل سير الحكاية، ونجحت الإضاءة (عز حلمي) في أن تعكس الأجواء التي تدور فيها الأحداث بدقة، خصوصاً في مشهد إبحار السفينة وإلقاء” القطع” في المحيط، وتوظيف ماكينة الدخان في تصوير مشاهد الغرق، وإن لم تعكس انفعالات الممثلين كما يجب، فلم تركز عليهم بالشكل المطلوب، وربما كان ضخامة السفينة سبباً في الاختلال النسبي بين حجم الديكور وأحجام الممثلين، وهو ما كان يتطلب عناية أكثر في الإضاءة على الممثلين الذين ظهروا في مشاهد عدة في أجواء شبحية غائمة.

وإذا كان المخرج نجح في رسم حركة الممثلين بشكل يعكس فهمه لطبيعة الحركة ودلالاتها ورسمها، كذلك، وفقاً لتحولات السفينة، قطعة الديكور الوحيدة المهيمنة، فإنه لم يعتن كثيراً بالتمثيل نفسه. لا يعني ذلك سوء التمثيل، لكنه يعني الاكتفاء بالحدود الدنيا من الأداء من دون إبراز قدرات الممثلين، باستثناءات بسيطة، منها ريهام حجاج في دورالطفلة، وحسن حامد في دور كوامي، ومجموعة الشباب إسلام عادل وطارق الخطيب ومحمد عوض وعبدالرحمن صلاح ومحمد الشرقاوي وغادة الطنطاوي وكيرلس هاني وبسملة درويش وأحمد حرب وأحمد علاء وآية أشرف وأحمد هلال وشمس كمال ونور مجدي.

يغلق العرض على مشهدين دالين، أولهما احتفال زوجة تاجر العبيد بتحنيط مجموعة من الأفارقة، ودعوة أصدقائها إلى مشاهدتهم، والآخر هو محاولة الطفلة معرفة معاني بعض الكلمات مثل الأمل والحب، وكأن الإنقاذ من هذا المصير البائس للشعوب المقهورة لا يأتي إلا عبر العلم والمعرفة.

“مائة وثلاثون قطعة” على رغم أنه عرض للهواة، أو ربما بسبب ذلك، عرض طموح ومغامر، سعى صناعه إلى إشباع هواياتهم أولاً من دون حسابات المكسب أو الخسارة وإمتاع الجمهور، وتقديم رسالة فنية وفكرية تلامس اللحظة الراهنة، وتعيد التذكير بجرائم الغرب ضد المستضعفين، الذين لا حول لهم ولا قوة، الجرائم التي ما زالت مستمرة حتى الآن، وإن بأشكال وطرق مختلفة.

المصدر: عربية Independent

شاهد أيضاً

بينَ مونتريالَ و بيروتَ

  بقلم الكاتبة حبيبة عبد الستار اديب     عبرتُ من مدينتِي الأنيقةِ  إلى رُبى …