السمة الغالبة في المجتمع هي الحفاظ بصورة شبه كاملة على الالتزام الديني، فالغالبية المطلقة من الإناث يرتدين الحجاب والنقاب يزيد بسرعة البرق، والمصلون يهرعون إلى الصلاة في المساجد والأماكن العامة بل وفي الحدائق ومحطات المترو والأرصفة ما إن يؤذن للصلاة. الأحاديث الاجتماعية نبذت “صباح الخير” و”شكراً” و”من فضلك” واعتنقت “السلام عليكم” و”جزاك الله خيراً” و”بالله عليك” والمظاهر لا حصر لها، أما الأخلاق ففي ضفة أخرى.
بثقة شديدة وقفت المعلمة الفاضلة ممسكة بورقة تحمل الإجابات وترددها بصوت مرتفع وهي ترفع عينيها بين وقت وآخر لتتأكد أن إجاباتها تصل لمستحقيها. وبمودة بالغة أخبر الموظف المواطنة طالبة الخدمة الحكومية بأنه أدرى الناس بأوجاع المواطنين وضوائقهم المادية، وأنه لن يأخذ منها إلا ما يخرج من جيبها وهي راضية حتى يتمكن من إنهاء أوراقها الرسمية، مذيلاً سرديته بـ”المهم فقط تكوني راضية حتى يبارك الله في الرزق حتى لو كان قليلاً”.
ومن دون أدنى تردد أقسم محمود السباك على المصحف الذي لا يفارق حقيبة “العدة” (الأدوات) بأن الصنبور الذي اشتراه للعميل ألماني القالب ياباني القلب وتقفيل أميركاني، هذا على رغم أن عبارة “صنع في الصين” بالإنجليزية مكتوبة بالبنط العريض على العبوة. أما سائق الأجرة فقد ظل طوال الرحلة من شرق القاهرة إلى غربها يعظ الراكب حول الضمير الذي يجب أن يكون متيقظاً، و”مراعاة ربنا” التي ينبغي أن تكون حاضرة وقيم الصدق والنزاهة والصراحة التي لا غنى عنها في سبيل رفعة الأمم وتقدم الأوطان، وحين حان وقت الحساب أقسم بأغلظ الأيمان أن العداد لا يعمل وأن قيمة الرحلة لا تقل عن 200 جنيه (على رغم أنه بحسب تطبيقات النقل المصنفة أغلى من الأجرة العادية لا تزيد قيمة الرحلة على 120 جنيهاً). وباستدعاء أمين الشرطة تم تشغيل العداد فجأة.
الأخلاق أصابها مكروه؟
فجأة شعر البعض بأن منظومة القيم والأخلاق أصابها مكروه. وجانب غير قليل من محتوى الـ”سوشيال ميديا” يعكس صدمة جراء “التردي الأخلاقي” أو “الانحدار السلوكي” أو “الانهيار القيمي”. وعلى رغم أن كل ما سبق من أحداث وحوادث منظومة متكررة على مدار أعوام، فإن حدثين رئيسين أعادا طرح سؤال: ماذا حدث للأخلاق؟
ما حدث للاعب كرة القدم الشاب الراحل أحمد رفعت طرح أسئلة تتعلق بترد أخلاقي وتدهور قيمي، إذ وضعت المكاسب المادية لمؤسسات والمصالح الشخصية لأفراد قبل مصلحة اللاعب وفرصه المستقبلية. وعلى رغم اختلاط حال اللاعب الصحية خصوصاً أن قلبه توقف تماماً في مارس (آذار) الماضي بمشكلات تتعلق بفرصة لم تكتمل لاحترافه في ناد عربي، ومطالبته بالعودة من الخارج لما قيل إنه “جريمة تهرب من أداء الخدمة العسكرية والسفر من دون تصريح سليم من إدارة التجنيد التابع لها”، وعلى رغم أيضاً من تلقيه وعداً من مسؤولين بتسوية موقفه وهو ما لم يحدث، فإن التفاصيل من ألفها إلى يائها دفعت كثراً إلى التعبير عن صدمتهم مما وصفوه بـ”التردي الأخلاقي” على مستويات عدة.
تناقض المعايير
ومستويات التردي الأخلاقي التي تشغل قطاعاً من المصريين هذه الأيام مختلفة ويصل بعضها إلى درجة التناقض في المحتوى. وبينما أحكام قضائية تصدر في حق نساء وفتيات ناشطات على منصات الـ”سوشيال ميديا” يقدمن محتوى يغلب عليه الترفيه بدرجاته، المقبولة وغير المقبولة مجتمعياً بناء على ملابسهن وحركاتهن، بعد تقديم بلاغات ضدهن من متابعين ينتفضون غضباً خوفاً على قيم الأسرة ويرتعدون غيرة على أخلاق المجتمع، فإن أحداً لا يتقدم بشكوى أو بلاغ أو كلمة عتاب جراء إهانة المرأة في فتوى تساوي بينها ومتاع البيت، أو اعتبار عدم التزام الأنثى بـ”كود” الزي الشعبوي مبرراً مقبولاً للتحرش بها، أو منظومة سير عكس الاتجاه وقيادة جنونية تحصد الأرواح على الطرق، أو اعتياد الاستيلاء على ميراث النساء في الصعيد أو إنجاب الأطفال بهدف تشغيلهم في سن السابعة أو الثامنة أو تزويج الفتيات وهن في مرحلة الطفولة… والقائمة طويلة.
الغش فردي وجماعي
وطيلة فترة اختبارات الثانوية العامة كل عام على مدار العقود الثلاثة الماضية ويزيد، ينغمس المجتمع المصري في متابعة حوادث الغش الفردي والجماعي. وفي كل عام يندد البعض ويشجب ما يجري ويبقى البعض الآخر صامتاً أمام حوادث كادت تصبح منظومة تحظى بقبول مكتوم، بل وتلقى مباركة ما ولو من باب “هي جت على الطلبة الغلابة؟!” أي إن مظاهر التردي الأخلاقي كثيرة، فليترك الطلاب يغشون شأنهم شأن غيرهم.
وعلى رغم ذلك يفرض فيديو متداول يقال إنه في محيط لجنة اختبار ثانوية عامة في محافظة الدقهلية يوم اختبار الكيمياء قبل أيام قليلة نفسه على حديث الشارعين الحقيقي والافتراضي. ففي الواقع الافتراضي يتداول الفيديو من منطلق الطرائف تارة والمصائب تارة أخرى. وبين التداولين حقيقة قوامها أن “تغشيش” الطلاب في لجان الاختبار يتساوى فيه الأهل والمعلمون والمراقبون، وهم المسؤولون كلاسيكياً ونظرياً عن زرع “قيم الأسرة” وضمان “أخلاق المجتمع” التي ينتفض الجميع حفاظاً عليها من فتيات الـ”تيك توك”.
إناث الـ”سوشيال ميديا”
فتيات ونساء، أو على سبيل التلخيص إناث “التيك توك” وغيرها من منصات الـ”سوشيال ميديا” التي تغذيها إناث بمحتوى ترفيهي أو اجتماعي أو فكري أو حتى إباحي، صنفن مجتمعياً بمباركة شبه رسمية مسؤولات عن تردي أخلاق المجتمع.
وعلى رغم أن أخلاق المجتمع تشهد تغيرات جذرية وتحولات خطرة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وتحديداً منذ اعتنقت مصر سياسة الانفتاح الاقتصادي، وما صحبها من تغيرات في المنظومة القيمية وتقلبات الطبقات وزعزعة مكانة التعليم وقيمة التربية، فإن “إناث السوشيال ميديا” كن كبش الفداء السهل والسريع.
الانفتاح والاتهام
سرعة “انفتاح” المجتمع المصري في سبعينيات القرن الماضي على ثقافة استهلاكية غير مصحوبة بقيم أخلاقية وسلوكية يمكن عدها بداية التغيرات الكبرى التي طرأت على أخلاق المجتمع. إذ يقول الكاتب الصحافي محمود خليل في مقال عنوانه “عصر الانفتاح” (2024) أن “الأسواق تمددت وتباين المعروض فيها على جميع المستويات في عصر الانفتاح. وبات من يملك يستطيع أن يقتني، ومن لا يملك يعيش حالة استفزاز قد تخلق لديه حقداً أو طموحاً يدفعه إلى البحث عن المال. ولا خلاف على أن سياسة الانفتاح لعبت دوراً مهماً في هز منسوب الأخلاق، وزرعت لدى من يملك المال إحساساً وهمياً بالقيمة، ولدى من لا يملكه غضباً وإحساساً بانعدام القيمة”.
يقول خليل إن الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ خلال عام 1974 أدى إلى هز منسوب الأخلاق، لكنه لم يتسبب في انخفاضه، فقد بقي كثير من الأخلاقيات الجيدة لدى الناس طوال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لا لشيء إلا لأن البحث عن المال لدى الفئة الأكبر من المصريين حينذاك كان مداره طرق محددة، هي في الغالب طرق منطقية ولا غبار عليها من الناحية الأخلاقية، بالسفر والعمل في دول الخليج.
ويبرئ خليل منظومة “البحث عن المال” أيام الانفتاح من تهمة تردي الأخلاق، باستثناء ما عرف في حينها من “قطط سمان” أو استغلال حالة “السداح مداح” (الفوضى) التي سادت الانفتاح. ويرى أن “جهود الإنسان المصري العادي، المهندس والطبيب والمعلم وأستاذ الجامعة والعامل والفلاح، الذي كان يحاول تحسين أوضاعه داخل مجتمع تحول من السوق المتوازنة إلى السوق الاستفزازية المفتوحة، بطرق مستقيمة لا تمنح الفرصة لظهور حالات سعار، أو تمنح المساحة للحالات الأخلاقية الثعبانية أو الأفعوانية التي تحاول بخ سمومها في كل اتجاه” مقبولة ولم تؤد إلى “تحول حقيقي في اتجاه السعار والسمية”.
فوضى الآراء
وهذا التحول الذي بدأ في تقدير خليل في مطلع الألفية الثالثة جاء مرتبطاً بنوع آخر من الانفتاح، وهو الانفتاح التكنولوجي عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. وفيهما – كما يقول- توافرت مسألتان في غاية الخطورة هما المكسب الافتراضي، وفوضى الآراء.
وعلى ذكر “فوضى الآراء” فإن منصات الـ”سوشيال ميديا” متخمة هذه الأيام بجدل “هل الغش حلال أم حرام؟”، وذلك في ضوء فيديوهات الغش المتداولة أثناء اختبارات الثانوية العامة، وقبلها الإعدادية وغيرهما من الصفوف الدراسية، بما في ذلك المرحلة الابتدائية. وعلى رغم أن الغش قديم قدم الاختبارات في جميع أنحاء العالم والتسريب أيضاً قديم قدم التكنولوجيا الحديثة، فإن ضلوع أطراف العملية التعليمية والتربوية من أهل ومعلمين ومراقبين في تيسير وتوفير وتدعيم ومباركة الغش يستحق التفكير. كما أن الدفاع المستميت عن المنظومة جدير بالتحليل.
واقع “أوف هوايت”
تحليل محتوى مناقشات تحصل على مدار الساعة على صفحات “فيسبوك” و”إكس” وفي مجموعات مغلقة على “واتساب” يشي بأن للغش مفردات أخرى بعضها إيجابي، وأن لمكيافيللي ومبدأه “الغاية تبرر الوسيلة” حضوراً واضحاً في الشوارع والميادين والحارات، وأن ما كان إما أبيض ناصعاً أو أسود حالكاً قديماً بات يحتمل أن يكون رمادياً أو “أوف هوايت” (شبه الأبيض).
فيديو الغش –وبطلته معلمة وأب وأم وآخرون في رعاية أمين شرطة غير معترض- ساحة نقاش. ففريق يرى أن الغش غش وأن ما يجري هو ظلم بين للطالب الذي أمضى عامه الدراسي يذاكر ويجتهد، وتمييز فج للطالب المتقاعس وخيبة قوية في منظومة تربية الأهل، وصدمة عنيفة في منظومة القيم لدى المعلمة، وإخفاق أخلاقي ومهني كامل للمراقبين في اللجان.
وفريق آخر مضاد بينه من يرى أنه طالما هناك طلاب التحقوا بكليات الطب والهندسة والعلوم السياسية وغيرها من كليات القمة بالغش، فمن حق الجميع أن يحصل على الفرصة نفسها. وغيرهم لا يعدون إملاء الإجابات أو مشاركتها “غشاً” بقدر ما هو تعاون وتكاتف وتكافل. وآخرون مقتنعون بأن المسألة برمتها أبسط بكثير مما تسببه من صخب، إذ “الولاد” (الطلاب) بذلوا مجهوداً كبيراً طوال العام ولا ضرر من بعض المساعدة في الاختبار، وذلك على سبيل العدالة الاجتماعية.
وليس أدل على ذلك مما حصل مع معلمة مصرية شغلت منصب رئيس لجنة اختبارات مدرسة إعدادية في محافظة الدقهلية، تعرضت قبل عامين لاعتداء عنيف بالضرب من قبل أولياء أمور الطالبات عقاباً لها على شن حرب ضد الغش في المدرسة أثناء الاختبارات. وتلقت المعلمة رسائل تهديد من الأهل على هاتفها المحمول، لكنها تجاهلتها. وأمام تجمهر الأهل على باب المدرسة ومحاولتهم اقتحامها استعانت بالإدارة التعليمية والشرطة، وأثناء إخراجها من المدرسة تعرضت للضرب والشتم من قبل الأهالي المتجمهرين.
المسافات الشخصية
وفي سياق منفصل عن التعليم ولكنه متصل بالأخلاق نجد في تجمهر المعجبين حول المشاهير أمراً معتاداً. ولكن غير المعتاد هو إصرار المعجب على تقبيل أو احتضان أو التقاط صورة مع الشخص المشهور غصباً. وعن هذا يحدد خبراء الصحة النفسية والعقلية المسافات الشخصية كالتالي، يجب أن تكون المسافة البينية أثناء العلاقات العامة كالتحدث أمام الجمهور أو تقديم عرض فني أكثر من 370 سم، والمسافة الاجتماعية التي تفصل بين المعارف والغرباء تراوح ما بين 122 و370 سم، وأن تراوح المسافة الشخصية التي يجب أن تفصل بين الشخص وأصدقائه وأقاربه ما بين 46 و122 سم. أما المسافة الحميمية التي تفصل بين أفراد الأسرة المقربين والأحباء والأزواج فتراوح ما بين صفر و46 سم.
إلا أن السنتيمترات في مصر تتضاءل. والمسافات بين الناس ينظر إليها إما باعتبارها رفاهية لا طاقة للجغرافيا والاقتصاد بها أو طرفة من طرفات هذا الزمن. وكان من نتيجة هذا أن المطرب عمرو دياب لم يتمالك نفسه وهوى “بالقلم” على وجه معجب التصق به ليأخذ صورة “سيلفي” قبل نحو شهر. وقبل أيام، هوى الممثل الملقب بـ”نمبر وان” محمد رضمان بصفعة أخرى على وجه معجب للسبب نفسه، لكن المعجب هذه المرة ردها له.
سلوكات المعجبين
وآخر ما يمكن توقعه هو تناول سرديات الـ”سوشيال ميديا” وتغطيات الإعلام في مثل هذه الوقائع من منطلق “سلوكات المعجبين”. فالغالبية المطلقة من ردود الفعل في الواقعتين اكتفت بصب الغضب وتوجيه اللعنات وتصويب الاتهامات لدياب ورمضان، ومن قبلهما مشاهير آخرون مثل كاظم الساهر وشيرين وهيفاء وهبي بل والراحل عبدالحليم حافظ، لكونهم تعاملوا مع معجبيهم بجفاء أو غلطة، وأخيراً عنف.
سلوكات المعجب أمر لا يتطرق إليه أحد. فالحديث عن قواعد أو “إتيكيت” أو ما يصح وما لا يصح للتعامل مع المشاهير من قبل المعجبين هو ضرب من الخيال. والتطرق إلى مسألة المسافات الشخصية هو والعدم سواء لدى البعض. والدليل أن أحد القلائل ممن يرون في إجبار المشاهير على التقاط صورة معهم أو تقبيلهم أو التعلق بأذرعهم خرقاً لخصوصيتهم واعتداء على حريتهم الشخصية ترجم مقالاً مأخوذاً من مجلة إنجليزية عنوانه “المشاهير الذين تحبهم ليسوا ملكيتك الشخصية” ناله من الانتقاد والسخرية والاتهامات ما ناله دياب ورمضان وعبدالحليم حافظ.
الالتزام الديني يكفي؟
وأمام كل هذه الصور تتجلى في المجتمع المصري مظهرية غالبة بالحفاظ شبه الكامل على الالتزام الديني، كل بحسب رجل أو رجال الدين الذين يستمع إليهم. ومظاهر هذا الحفاظ في المجتمع واضحة وضوح الشمس. فالغالبية المطلقة من الإناث يرتدين الحجاب والنقاب يزيد بسرعة البرق والمصلون يهرعون إلى الصلاة في المساجد والأماكن العامة بل وفي الحدائق ومحطات المترو والأرصفة ما إن يؤذن للصلاة، والقرآن الكريم ينطلق من ملايين المحال والباصات والسيارات والبيوت والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية بل وفي محطات تحصيل الرسوم عبر مكبرات صوت تبث في الصحراء، حتى وصل الأمر إلى أن مفردات الأحاديث الاجتماعية نبذت “صباح الخير” ومساءه و”شكراً” و”من فضلك” واعتنقت “السلام عليكم” و”جزاك الله خيراً” و”بالله عليك” وسط تعابير مظهرية لا حصر لها، ولا حتى ما يدلل عليها.
الثقافة والتدين
الكاتب الصحافي وعضو مجلس الشيوخ رامي جلال كتب تحت عنوان “الثقافة والتدين الشكلي” (2023) أن أمثلة توغل المظهرية الدينية كثيرة، بين محال ومؤسسات تغلق أبوابها لإقامة الصلاة وعمال توصيل طلبات يرفضون توصيل ما يتعارض وتصوراتهم الدينية، ومسؤولين عن الموسيقى يقومون بمطاردات أخلاقية لأي مغن يردد كلمات لا تتوافق ومعاييرهم الأخلاقية. كل المدن المصرية عامرة بمراكز تحفيظ القرآن وليس فهمه، والمناهج الدراسية تم تديينها قدر الإمكان، والمرجعية الأخلاقية الوحيدة التي تقدم للطلاب هي المرجعية الدينية، بحسب رؤية ما يفسر ويقرر.
ويشير عامر إلى أن الـ”سوشيال ميديا” أصبحت أداة لإعلان الانحياز الديني، إذ يتنافس “المؤثرون” في ضخ الأدعية والابتهالات والتفسيرات غير معلومة المصدر والدروس الدينية مجهولة النسب وغيرها، بحثاً عن أكبر عدد من المتابعين الذين لا يعرف معظمهم أنهم أدوات استثمارية تحقق الانتشار لصاحب الصفحة.
غياب المشروع الثقافي
وخلص عامر في مقاله عام 2023 إلى تحميل الدولة المسؤولية نتيجة “غياب مشروع ثقافي واضح يمكن من خلاله مواجهة المشروع الثقافي الخاص باليمين الديني المتشدد، الذي انتشر واستشرى من دون رادع في وقت يظن فيه البعض أن الثقافة رفاهية، وأنها تسيير أعمال ومكاتبات ورقية ومكاتب فخمة وملابس جميلة وتعاملات بروتوكولية”. ويضيف أنه نتج من ذلك “كيانات ومؤسسات مترهلة لا تقدم ثقافة، بل قدمت البلد كاملاً على طبق من ذهب لجماعات متطرفة، والتي لولا ستر الله علينا لكنا الآن نبحث عن دولة اسمها مصر” محذراً من تكرار ما جرى.
ما جرى من تراجع الثقافة ومعها الأخلاق والقيم وتوغل الفكر الديني المتشدد أو المظهري والترويج له باعتباره المنظومة الأخلاقية الوحيدة، أسهم في إحداث تغيرات عدة في منظومة الأخلاق والقيم.
فقر الوعي
الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي عمار علي حسن ينعت الرؤى الدينية المطروحة بـ”الفقر الشديد في الوعي الأخلاقي”. وكتب تحت عنوان “حاجة مجتمعنا الآن إلى مبادرة أخلاقية” (2024) أن “ما جرى من غلبة الفقه على الفلسفة والشريعة على الأخلاق والتدين على الدين، لم يسعف في قيام علم أخلاق إسلامي يتسم بالانضباط الصارم والاتساق الذاتي ويمتلك القدرة على نشره بسهولة شديدة. وفي الوقت نفسه فإن الكنيسة لم تعط المسألة الأخلاقية العامة ما تستحقه من اهتمام”، مشيراً إلى أن “غياب الجانب الأخلاقي المرتبط إلى حد عميق وبعيد بالروحانيات ويقظة الضمير، حول العبادات إلى مجموعة من الطقوس وجعل المعاملات تقوم على النفعية سواء بتحصيل مكاسب دنيوية عاجلة أو السعي إلى الفوز بمكاسب أخروية آجلة عبر جمع الحسنات في عملية حسابية جافة، يظن صاحبها أن بوسعه أن يربح إن تعامل مع عدل الله وليس رحمته وفضله، تطبيقاً لفقه وتفاسير تتحدث له في هذا الاتجاه الذي يميل إلى ظاهر النصوص”.
من النصوص إلى الجيوب
ومن النصوص إلى الجيوب، إذ يرى عمار علي حسن أن “الظروف الاقتصادية الصعبة تدفع كثيراً من الناس إلى حالة من التوحش ينسون معها كثيراً من تعاليم الأديان، ومن التقاليد والأعراف، ومما يوجبه الحس العام السليم الذي يحمى المجتمع من الغرق في صراع مفتوح على الموارد والمكانة”، مضيفاً أنه “يكفى لأي منا أن يرى كيف يتصرف الناس ويسمع ما يتلفظون به في الشوارع والأسواق والمتاجر وأماكن العمل، ليدرك أن الأخلاق لم تعد حاكمة لكثير من مسار القول والفعل. وتصبح الصورة مساوية لهذا أو أكثر قتامة حال تصفح مواقع التواصل الاجتماعي التي يدفع المصريون في أوصالها كثيراً من نفايات الكلام، ومن التعري وجرح الخصوصية ومن التلصص والتشفي ومن إثارة الأحقاد وتصفية الحسابات والانتقام”.
الانتقام عدالة؟
الانتقام ليس بالضرورة حمل سلاح وقتل من يعتقد أنه تسبب في ضرر ما. ففي دراسة عنوانها “الانتقام: الحرب ضد الظلم” منشورة على موقع وزارة العدل الأميركية، جاء أن “جميع أعمال الانتقام تنبع من إحساس أساس بالظلم، أي الشعور بالتعرض التعسفي لقوة طاغية لا يستطيع الشخص التصرف تجاهها”. ويكون الطرف المتضرر مدفوعاً بالرغبة في المساواة والعدالة والمعاملة بالمثل، فإن لم يتح ذلك يبرر البعض لنفسه اتباع أساليب القهر والظلم نفسها التي يعانيها مع الآخرين.
الفقر والظلم والفساد والإحباط واليأس وانعدام الثقة بين المواطن والحكومة أدت إلى خلل كبير في منظومة القيم داخل المجتمع المصري. وهو ما خلصت إليه دراسة مصرية هي الأولى من نوعها رصدت ما جرى في مصر على مدار 50 عاماً من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وانعكاساتها على المجتمع ومنظومته الأخلاقية.
ماذا حدث في المنظومة؟
كان هذا خلال عام 2009. إذ كلف وزير التنمية الإدارية السابق أحمد درويش عميد كلية الآداب جامعة القاهرة السابق ومدير مكتبة الإسكندرية الحالي أحمد زايد بإجراء دراسة علمية شملت كل محافظات مصر، بسكانها وتخصصاتهم المختلفة بغرض “الحصول على إجابة شافية للتساؤل الدائم عما حدث في منظومة القيم داخل المجتمع المصري”، وذلك “على رغم أن الشعب بالغ التدين فإنه يفصل بين المعاملات والعبادات لدرجة انتشر معها الفساد الصغير ليشكل ظاهرة وسلوكاً يومياً”، وذلك بحسب ما قاله الوزير أحمد درويش وقتها.
ووقتها، جاء في الدراسة أن المصري دخل التسعينيات في ظل عدد من المتغيرات في القيم والسلوك أبرزها انتفاء قيمة العدالة بشيوع المحسوبية وتزوير الانتخابات والرشوة والفساد وتصعيد المنافقين والمؤيدين وكتاب السلطة، فسادت قيم النفاق والوصولية والنفعية والتواكل والصعود على أكتاف الآخرين. ووجدت الدراسة أيضاً أن قيمة القدوة تراجعت كثيراً، وباتت الغالبية تفتقد النموذج الذي يحتذى في ظل انتشار فساد المسؤولين. وتراجع شعور المصري في التسعينيات بالأمان والطمأنينة إذ كان المصريون يعتمدون على شخص وشخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر للشعور بالأمان، لكن في عهد الرئيس الراحل السادات تسلل القلق والاكتئاب إلى كثيرين، وهو ما استمر في الثمانينيات والتسعينيات. وهرب كثر إلى الغيبيات “حيث الطمأنينة المزيفة”. وامتزجت لديه روح الفكاهة بالاكتئاب، فدشن عصر الكوميديا والفكاهة والدعابة والنكتة السوداء.
وأكدت الدراسة تراجع قيمة الأسرة (كان هذا في زمن ما قبل الثورة الرقمية) وتراجع قيمة الانتماء للوطن، بعد أن أقصي بعيداً من أية مشاركة حقيقية. وتراجعت أيضاً قيم العلم والعمل والتفكير العلمي، وشاع مع هذا التراجع التسيب واللا مبالاة والبحث عن الصالح الشخصي وليس العام.
مدرسة الأخلاق الحميدة
وخلال عام 1971 انبهر المصريون بمسرحية “مدرسة المشاغبين”. أحداث المسرحية كلها جرت في فصل بمدرسة “الأخلاق الحميدة”. كثر – حتى اليوم- يحملون المسرحية بأحداثها المضحكة ونماذج الطلاب الفاشلين في التحصيل والمفتقدين قيم التربية والأخلاق والسلوك ولكن في قالب كوميدي جذاب مسؤولية تردي التعليم وزعزعة قيمة المعلم وتجميل صورة الشغب في المدرسة، لكن أستاذ النقد الأدبي شوكت المصري رأى في مقال كتبه تحت عنوان “مدرسة المشاغبين وحيطة الفن المايلة” (2023) أن مروجي هذا الاتهام لم يدركوا المعنى الحقيقي للفن، والقدرة على قراءة المسرحية وشخصياتها وأحداثها وما حملته من رسائل ومضامين.
ورأى المصري في أحداث المسرحية رمزاً للوطن حينئذ. فالمدرسة هي الدولة وطلاب الفصل شريحة من الشعب هم الشباب ممن لم تتسع عقول القائمين على المدرسة لأحلامهم ومواهبهم واندفاعاتهم، فحصروهم في فصل المشاغبين وامتنعوا عن محاولة استيعابهم وفهمهم، فأمعن الطلاب في الشغب والتردي السلوكي، وذلك لشعورهم بالظلم.
الأثير والمنابر والمؤثرون
الأثير ومنابر دور العبادة وكذلك صفحات المؤثرين “الملتزمين” ممن يحظون بملايين المتابعين عامرة بدعاء المظلوم المقهور الذي يضمن تفريج الهموم، والدعاء المستجاب على الظالم قبل شروق الشمس، وفتوى بجواز الدعاء على الظلم والظالم في الحج والعمرة والمسجد، وكذلك أدعية تذهب الفقر وتجلب الخير، وثالثة لدرء الإحباط والاكتئاب، وباب الدعاء الذي لا ينضب.
ويلوح خبثاء إلى أن الإفراط في حل المشكلات من طريق الدعاء يقلص حجم الغضب أو يخفف من عمق الألم وغيرهما من الآثار التلطيفية، لكنه لا يعالج. وفريق الخبثاء نفسه يلوح كذلك بمسؤولية الدولة عن الأخلاق وذلك عبر ذراعي التعليم والقانون اللذين يراهما البعض معتلين، إضافة إلى أدوار معروفة لكن غائبة عن الإعلام والثقافة، إضافة إلى المؤسسات الدينية وعدم الاكتفاء بالأخيرة وحدها.
في حين يرى عمار علي حسن أنه آن أوان “بناء منظومة أخلاقية منفتحة تقوم على قيم الحرية والعقلانية والمساواة بين الناس على اختلافهم، وبلورة رؤية تثق أكثر في الإنسان، ولا ترضخ للتصورات والعطاءات الفقهية الجامدة والمغلقة، والتأويلات القانطة والمزعزعة حيال الإنسان، وتعترف بوجود أطروحات أخلاقية غير دينية، تنبع من الموروث الشعبي، إذ الحكم والأمثال والحكايات، ومن مختلف الفلسفات والتأملات والآداب والفنون وغيرها”.
قيم تساعد على التقدم؟
مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية جمال عبدالجواد تساءل في ورقة عنوانها “طبائع المصريين المحدثين وعاداتهم” نشرها “المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية” عن القيم والأخلاق السائدة بين المصريين، وإن كانت تساعد على التقدم؟ واقترح عمل دراسة لمعرفة رأي المصريين ورؤيتهم لأنفسهم ومنظومتهم الأخلاقية والقيمية، وذلك كخطوة أولى قبل اقتراح سبل التقويم.
وطرح عدداً من الأسئلة التي لا تخلو من تلميحات تشي بضرورة المراجعة والتعديل، كاتباً “سنطلب من المستطلعة آراؤهم قبول أو رفض عبارات مثل هل إتقان العمل من السمات المميزة للمصريين؟ هل يحترم المصري المال العام والملكية العامة؟ هل الأسرة المصرية مترابطة يحترم فيها الأبناء آباءهم؟ هل المصري صادق يقول الحقيقة ويكره الكذب؟ هل يكره النفاق؟ هل يمتنع عن إلقاء المخلفات في الشارع؟ هل هو بارع في العمل الجماعي؟ هل يحترم القانون؟ هل يحترم النساء ولا يتحرش بهن؟”.
ويخلص عبدالجواد إلى أن دراسة القيم والأخلاق ليست ترفاً فكرياً، ولا هي نوع من الافتخار بالذات أو جلدها، إنما هي من ضرورات الإصلاح والتقدم.
مخالفات وفساد
أرشيف مجلس النواب (البرلمان) المصري حافل بطلبات إحاطة في شأن مخالفات بناء يشوبها فساد، وظاهرة الغش التجاري في الأسواق ومجال البيع “أون لاين” وانتشار الغش الجماعي والفردي في الاختبارات، وغش الأدوية ومصانع “بئر السلم” التي تنتج بضائع قاتلة، وسرقة تيار الكهرباء وأغطية البالوعات والدروس الخصوصية في المنشآت الحكومية، وتكرار حوادث الخطف والتحرش عبر سيارات تطبيقات النقل، وتهريب السلع وجنون الأسعار وزيادة مصروفات المدارس وخرق القوانين، وفوضى المرور والتوك توك والسير عكس الاتجاه، وغيرها الآلاف.
ويظل السبب الرئيس لما يسميه البعض “تدهوراً أخلاقياً” يعده آخرون “انفلاتاً سلوكياً” غائباً عن النقاش العام، وبعيداً من التشخيص العلمي، بالتالي عصياً على العلاج الفعلي من المنبع.
المصدر : عربية Independent