فئات متعددة من المجتمع المصري اتجهت إلى السياحة الريفية على سبيل الاستكشاف والتغيير والرغبة في خوض تجارب جديدة، بخاصة مع الدور الذي تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً من التعريف بمثل هذه النوعية من الرحلات.
بعيداً من الفنادق الفاخرة والمنتجعات التي توفر رفاهيات بلا حدود يأتي نوع آخر من السياحة أخذ في الانتشار خلال الأعوام الأخيرة، وهو “السياحة الريفية” التي يكون مقصدها أماكن طبيعية بسيطة لاستكشافها والتواصل مع السكان المحليين، والإقامة في منازل بسيطة وتناول الأطعمة الشعبية التي يشتهر بها أهل المنطقة.
وتشهد السياحة الريفية في مصر تنامياً محلياً مقارنة بأعوام قليلة ماضية، إذ تنظم رحلات في طول البلاد وعرضها للتعريف بجوانب وأماكن ربما كانت لا تلقى الاهتمام ذاته خلال فترات سابقة. ومن أشهر المواقع التي أصبحت تستقبل رحلات السياحة الريفية في مصر الفيوم وبحيرة البرلس والمنوفية، وسيوة والواحات ورشيد وكثير من محافظات الصعيد، مما يتيح وجهات مختلفة وتجارب متنوعة بحسب طابع المكان.
وأخيراً، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للسياحة عن فوز قريتي غرب سهيل بمحافظة أسوان وأبو غصون بمحافظة البحر الأحمر ضمن أفضل القرى الريفية السياحية لعام 2024، واختيرت القريتان لـ”تلبيتهما المعايير” التي وضعتها المنظمة في هذا الإطار، من بين 260 قرية على مستوى العالم فاز منها 55 ضمن قائمة أفضل القرى الريفية السياحية.
ووضعت منظمة الأمم المتحدة للسياحة تسعة معايير لاختيار تلك القرى، تمثلت في توافر الموارد الثقافية والطبيعية، وقدرة قطاع السياحة على الحفاظ على تلك الموارد وتعزيزها، وتوفير الاستدامة الاقتصادية وتكاملها، وحوكمة الأنشطة السياحية بالقرى على تحقيق سلاسل القيم للدولة، والبنية التحتية والخدمات السياحية والاتصالية، وتوافر معايير الأمان السياحي والصحة والسلامة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تفوز قرى مصرية، فسجلت سابقاً قريتا دهشور بالجيزة وسيوة في مطروح عام 2023، إضافة إلى وضع قريتين على قائمة الترقي وهما قرية فوه بكفر الشيخ عام 2021، وسانت كاترين في جنوب سيناء عام 2023.
العودة إلى الأصول
يقول أحد مؤسسي المبادرات التي تنظم رحلات سياحة ريفية ياسر الرسول “السياحة الريفية تركز على مفهوم العودة إلى الأصول والبساطة والحياة الهادئة بعيداً من صخب المدن الذي اعتدناه، وذلك بالتوجه إلى المناطق الطبيعية التي يتميز بها موقع معين. وأحياناً نخيم وسط الغيطان (الحقول) والمناطق الزراعية، وأحياناً في البيئات الصحراوية أو في مواقع ساحلية داخل بعض المحافظات غير السياحية منها والشهيرة والتي تشتهر بالسياحة الشاطئية، فكل منطقة في مصر لها طابع خاص وما يميزها في هذا المجال، وإلى جانب ذلك يمكن زيارة المواقع الأثرية أو المعالم الشهيرة في المحافظة فتحقق الرحلة أكثر من هدف”.
يضيف الرسول “الحياة في المدن وسيطرتها على الناس خلال الفترة الأخيرة لأسباب متعددة جعلت الريف تجربة جديدة كلياً لقطاعات واسعة من المصريين، والذهاب في مثل هذه الرحلات وخوض تجربة حياة الناس بصورتها الطبيعية بعيداً من رفاهيات الفنادق الفاخرة يمثل حالاً فريدة بالنسبة إليهم، وهي تمثل الرجوع إلى الأصل، وخلال الأعوام الأخيرة أصبح هناك وعي وإقبال أكثر على هذه النوعية من الرحلات من قطاعات واسعة من الناس من كل الأعمار”.
ويوضح المستكشف المصري أن “مصر يمكن أن تصبح من أهم دول العالم في ما يتعلق بالسياحة الريفية، لكنها تحتاج إلى بعض الجهد للتوعية بها وبطبيعة كل منطقة، الدلتا اشتهر بها خلال الأعوام الأخيرة رحلات الحصاد، والمناطق الصحراوية لها طبائع مختلفة فبدو مطروح يميزهم الزراعة والرعي، بينما بدو حلايب وشلاتين يعيشون في بيئات صحراوية، والصعيد بكامله به أماكن تحتاج إلى إعادة اكتشاف، ويمكن أن تصبح وجهات سياحية مهمة، ستضيف لها تجربة السياحة الريفية بعداً جديداً”.
فئات متعددة من المجتمع المصري اتجهت إلى هذا النوع من السياحة على سبيل الاستكشاف والتغيير والرغبة في خوض تجارب جديدة، وبخاصة مع الدور الذي تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً من التعريف بمثل هذه النوعية من الرحلات.
ويقول كريم مصطفى (36 سنة) “خلال الأعوام الأخيرة اتجهت برفقة مجموعة من أصدقائي إلى الواحات وغرب سهيل والفيوم، ولدينا خطط مستقبلية لعدة وجهات نرغب في استكشافها، التجربة فريدة ومختلفة كلياً عن الرحلات التي كنا نذهب إليها عادة في أماكن سياحية شهيرة مثل شرم الشيخ والغردقة والإسكندرية، فهي جعلتنا نرى مصر التي لا نعرفها، ونكتشف أن فيها كنوزاً طبيعية لم تستغل بعد”.
بينما تذكر نور حاتم (27 سنة) “ذهبت العام الماضي رفقة مجموعة من أصدقائي إلى رحلات الحصاد في محافظات الدلتا وكانت التجربة مبهرة، فهي المرة الأولى التي أتوجه فيها إلى الريف حيث شاهدت المساحات الزراعية الشاسعة والتعامل مع أهل البلد البسطاء وتناول الأطعمة الشعبية، وكانت تجربة مختلفة تماماً عن أية رحلات سابقة توجهت إليها بصحبة الأسرة أو الأصدقاء في فنادق ومنتجعات سياحية، وأنوي تكرار التجربة واختيار وجهات مختلفة لرؤية مصر من منظور مختلف”.
تراث الأمكنة
وتمثل غرب سهيل لوحة فنية فريدة على شاطئ النيل تطل بألوانها المشرقة على زائريها، فالقرية الهادئة بمبانيها ذات الألوان الزاهية وبمفرداتها البصرية النوبية الموجودة في كل مكان تحولت إلى واحدة من المقاصد السياحية الشهيرة جنوب مصر، لتجمع بين التراث والسياحة المستدامة، ولتصبح واحدة من أهم مدن السياحة الريفية بشهادة منظمة الأمم المتحدة للسياحة.
وتقع غرب سهيل فوق سفح رملي غرب نهر النيل، وغالباً ما يصل إليها الناس بالمراكب التقليدية التي يقودها السكان المحليون، فالنيل عنصر أساس في المكان وجزء من التجربة الفريدة التي تقدمها غرب سهيل لزوارها.
يقول محمود الهواري منظم رحلات لمنطقة غرب سهيل “المنطقة تتميز بطابع خاص عن أي مكان في مصر، إطلالة فريدة على النيل وطبيعة خلابة، إضافة إلى أهم ما يميزها وهو التراث الغني في كل مكان بالمنازل والملابس والحرف والفنون، فكل شيء يعكس تراث أسوان والنوبة ويمثل تجربة لا مثيل لها بالنسبة إلى السائح، ومن أهم ما يميز غرب سهيل أهلها البسطاء الذين يستقبلون السياح بالغناء والفلكلور النوبي، وهم بسبب طبيعة المكان يعمل كثير منهم في السياحة وكل ما يتعلق بها”.
يضيف “الفنادق في غرب سهيل لها طبيعة خاصة، هي أشبه بالمنازل التقليدية للسكان المحليين، وكل ما فيها ينتمي إلى المكان سواء الأثاث أو الديكورات النوبية الملونة، وتُقدم فيها الأكلات التقليدية للمنطقة، فالزائر يشعر وكأنه يقيم في بيت لا فندق بالمفهوم المتعارف عليه، ويمثل له هذا تجربة جديدة وفريدة من نوعها، لأن غالباً هذا هو ما يبهر السائح أكثر من الفنادق الفاخرة الموجودة في كل مكان حول العالم، ففكرة أن يعيش بطريقة أهل المكان تمثل شيئاً جديداً بالنسبة إليه، وغرب سهيل لديها كل المقومات لاستقبال السياحة بصورة أكبر من الوضع الحالي، لكنها تحتاج إلى مزيد من الدعاية، وإلى أن توضع على خريطة السياحة العالمية بصورة أكبر”.
توصف قرية أبو غصون بمحافظة البحر الأحمر بأنها أحد المجتمعات المحلية الشديدة الخصوصية جنوب البحر الأحمر، إذ تعد القرية الهادئة واحدة من نماذج التراث الثقافي المتنوع في مصر، ويمر عليها الزائر غالباً ضمن رحلة لمدينة مرسى علم تتضمن نشاطات بحرية مختلفة على رأسها الغطس، إضافة إلى زيارة محمية وادي الجمال التي تمثل واحدة من أبرز نماذج السياحية البيئية، لتكون قرية أبو غصون محطة مهمة للتعرف على التراث الثقافي للسكان المحليين لمنطقة جنوب البحر الأحمر.
يقول بشار أبو طالب نقيب المرشدين السياحيين في محافظة البحر الأحمر “أصل السياحة هو الاطلاع على ثقافات الشعوب والتواصل مع أهلها، والتعرف على طبيعة المكان أو المدينة وعادات أهلها، وهذا هو ما يحدث بالفعل في فكرة السياحة الريفية. ومصر بصورة عامة لديها تنوع كبير جداً في هذا المجال وفرص واعدة يجب أن تستغلها، فالدلتا شمالاً تختلف عن الصعيد جنوباً والمناطق الصحراوية تختلف عن المناطق المطلة على النيل، فالتنوع كبير والتجربة ثرية للغاية”.
يضيف “أبو غصون قرية صغيرة على البحر قرب مدينة مرسى علم ومحمية وادي الجمال يسكنها بدو، وتتميز بالبساطة والطبيعة الخلابة وتشتهر بحرف تراثية تمثل عامل جذب كبير لزوارها، مثل صناعات السجاد والمشغولات اليدوية، وقديماً كان هناك ميناء في هذه المنطقة لكنه لم يعد مستخدماً، وإعلان منظمة السياحة العالمية لأبو غصون واحدة من أفضل المدن الريفية السياحية سيعطيها دفعة قوية، لأن العالم كله يتابع مثل هذه القوائم ويتعرف على المناطق التي يُجرى إعلانها”.ويختتم أبو طالب “السياحة الريفية فرصة واعدة جداً لمصر، فكل وادي النيل لم يستغل سياحياً، إنما هناك مناطق معينة تحظى بالاهتمام والتدفق السياحي، بينما مدن مثل قنا وسوهاج والمنيا على سبيل المثال لديها كثير من المقومات، وبها آثار متنوعة، لكنها تحتاج إلى اهتمام أكبر من حيث وجود خدمات ومطار يعمل بصورة منتظمة”.
المصدر: اندبندنت عربية