أجواء “ألف ليلة وليلة” في حكايات الألماني فيلهلم هاوف

“سفينة الأشباح” مجموعة قصصية للكاتب الألماني فيلهلم هاوف الذي عاش في القرن الـ19، تستوحي عوالم “ألف ليلة وليلة” وخوارقها.

في مطلع القرن الـ18 ترجم الفرنسي أنطوان غالان كتاب حكايات “ألف ليلة وليلة”، ثم توالت ترجمات العمل نفسه الذي طالما أثير الجدل حول أصله الذي تفرق بين الحضارات، لا سيما الهندية والفارسية والعربية. ولم تتوقف أهمية هذا الكتاب عند أثره في نقل صورة رومانسية وساحرة عن الشرق، بل إنه ترك تأثيراً كبيراً في أعمال كتاب عالميين، مثل وليام بيكفورد وتوماس هوب وجيوفاني بوكاشيو وغابرييل غارثيا ماركيز وفيلهلم هاوف (1802- 1827). عكس هاوف تأثره بالعوالم السحرية لـ”ألف ليلة وليلة”، في كثير من قصصه، مثل “الخليفة اللقلق” و”اليد المبتورة” و”موك المزيف”. وصدرت النسخة العربية لهذه القصص، تحت عنوان “سفينة الأشباح” (منشورات رامينا – لندن)، بترجمة أنجزها عن الألمانية عبدالرحمن عفيف.

وعلى رغم حياته القصيرة برز هاوف كأحد أهم كتاب العصر الرومانسي في أوروبا. وكما تميزت أعماله الأدبية بالحضور الكثيف للصور الرومانسية، فإنه أودع كثيراً من هذه الأعمال، ملامح استدعاها من عوالم “ألف ليلة وليلة”، ومنها الغرائبية. وهي سمة تشاركتها قصص هذه المجموعة، حتى بدت وكأنها امتداد للحكايات الشهرازادية، وجزء لا يتجزأ منها، فالخليفة الحاكم ووزيره منصور، يتحولان إلى طائري لقلق، ويعلقان في هيئة الطير، حتى يكتشفا السر الذي يعيدهما إلى هيئتهما الإنسانية، والبحارة فوق السفينة محاصرون في منطقة قلقة بين الحياة والموت، فلا هم أموات ولا هم على قيد الحياة، حتى يصعد السفينة من يخلصهم من تلك اللعنة، ويمنحهم الموت بسلام، والقزم “موك” يستطيع الطيران بخفين مسحورين، وتكشف عصاته السحرية مواضع الكنوز.

صراع أزلي

تنوع أسلوب السرد من قصة إلى أخرى، فتارة جاء ذاتياً على لسان البطل أو الشخصية المحورية في القصة وتارة قاده راو عليم، جهله الكاتب أحياناً، وأخبر عنها في أحيان أخرى، من دون أن يمنحه دوراً في الأحداث، كما في قصة “إنقاذ فاطمة” التي كان ساردها أخاً مجهولاً، يروي ما قام به أخوه، لإنقاذ أخته المخطوفة. وفي قصص أخرى كان الراوي شخصية ثانوية في حكاية إطارية، تفرعت منها حكاية جديدة، كما في قصة “موك القزم”. وعلى رغم تباين وتنوع أسلوب السرد من قصة لأخرى، حضرت ثنائية الخير والشر، كتيمة رئيسة في كل قصص المجموعة، وكانت مسؤولة عن بروز الصراع بين القوى التي تمثل كل طرف من الثنائية. وساعد هذا الصراع، إلى جانب دوره في تحريك الأحداث والتطور الدرامي على خلق شحنات من التوتر، أضفت بدورها مزيداً من الجاذبية والتشويق والإثارة، كما في قصة “الخليفة اللقلق” التي اندلع فيها الصراع بين الخليفة ووزيره والأميرة الهندية من جهة، وهم الممثلون لقوى النور، وبين الساحر الجبار “كاشنور” وابنه “ميزرا” من جهة أخرى، وهما الممثلان لقوى الظلام، إذ كاد الاثنان يزيحان الخليفة عن القصر، ليحل “ميزرا” محله في حكم بغداد.

وفي قصة “سفينة الأشباح”، كان الصراع بين البحارة واللعنة التي أصابتهم فتركتهم على حافة الموت، يعيشونه نهاراً ويعودون ليلاً للحياة، بينما تتحرك السفينة في الحيز ذاته من البحر، بين ذهاب وإياب، فلا تبلغ براً، ولا يبلغ بحارتها الخلاص. وفي قصة “إنقاذ فاطمة” يهيمن الصراع على كل مفاصل السرد، فينطلق مع بداية الأحداث، ويستمر طوال الرحلة التي يسلكها أخوها لإنقاذها ممن اختطفوها، ليبيعوها جارية في سوق النخاسة، وتتعدد أطراف الشر وتتبدل، مع تقدم الرحلة، وانتقال “فاطمة” من يد إلى يد.

رؤى ضمنية

اتخذ الصراع في قصة “الأمير المزيف”، منحى آخر، إذ أحاط الكاتب كل أطرافه ببواعث التعاطف، لا سيما المدعي الذي سعى كاذباً للسطو على لقب الأمير وانتزاعه من صاحبه. وعلى رغم بروز الملمح الرومانسي الذي هيمن على كل القصص، وبدا خصوصاً في النهايات السعيدة التي تتحقق عبرها العدالة، وينتصر الخير، ويجني الشر هزائم مدوية، فإن الطرف الذي اقترف خطيئة الكذب والاحتيال في هذه القصة “الخياط”، حصل تزامناً مع تحقق العدالة التي لم تكن في صالحه، على نصيب من السعادة والثراء، مما عبر عن فلسفة ضمنية للكاتب، تنأى بالنفس الإنسانية عن مثالية زائفة، وتنتصر لحقها في الخطأ، كونها مجبولة عليه، وكونه جزءاً من طبيعتها. وكما مرر الكاتب فلسفاته ضمناً، مرر عدداً من القيم، والعبر الأخلاقية، بالضمنية ذاتها، مثل أن المكر السيئ يحيق دائماً بأهله، وما من معروف إلا ويعود لصاحبه، وأن العفو من شيم الكرام، وعواقب الظلم لا بد أن تكون وخيمة: “لكمات الأيدي الثقيلة للسيد الخياط ومعلمه ورفاقه، بدت وكأنها طردت منه كل عظمة وكل غرور كان فيه… جلس وبدأ في إصلاح المعطف الذي مزقه سيده بوحشية، باستخدام الإبرة والخيط اللذين وجدهما في الصندوق. تم استدعاؤه من عمله، وعندما أراد العودة إليه، كم كان المشهد عجائبياً، الإبرة كانت تخيط بنشاط دون أن يقودها أحد”. ص 113.

المغامرة والسفر

برزت ثيمة الارتحال في قصص المجموعة، واتسق بروزها مع حضور المغامرة، كمكون رئيس من مكونات السرد، فتشارك أبطال كل القصص، الرغبة ذاتها في الرحيل، وإن تباينت غاياتهم منه. وكان السفر دوماً مفتاح نجاتهم، وأداتهم في مسعاهم للخلاص، فالخليفة سافر إلى مكة، ساعياً للتخلص من هيئة اللقلق، والطبيب في قصة “اليد المبتورة”، سافر إلى فلورنسا هرباً من ضيق العيش، وسعياً لكسب المال. وفي قصة “إنقاذ فاطمة”، سافر البطل من أجل إنقاذ أخته، وفي قصة القزم، سافر “موك” بحثاً عن الحظ، ومرة أخرى سعياً لاستعادة عصاه وخفيه المسحورين. أما في حكاية “الأمير المزيف”، فارتحل الخياط هرباً من مكانته ومهنته التي يحتقرها، بينما ارتحل الأمير باحثاً عن ملكه، وعن أبويه. وكان الارتحال والمغامرة، سبيلين تدافعت عبرهما التحولات التي طرأت على الشخوص والأماكن والأحداث، فأصبح الخليفة ووزيره طائري لقلق، ثم استعادت الطيور الثلاثة هيئتها الإنسانية. وتحول الأموات إلى أحياء ليلاً، ثم إلى أموات نهاراً. وبلغت السفينة البر، بعدما كانت عالقة في بحر لا تجاوزه. وانقضت لعنة البحارة فوقها. وتحولت الجارية إلى سيدة. وتحول الخياط إلى أمير، ثم عاد خياطاً، مع تحولات أخرى، من الفقر إلى الثراء، ومن الشعور بالدونية، إلى الرضا بقدره، وتقدير مهنته.

 وعزز هاوف أثر المغامرة في السرد، عبر ما انتهجه من لغة مشهدية، عززت بدورها حالة التشويق والتوتر، الذي بلغ حدوده القصوى، مع تطور الأحداث، مما أضفى على النسيج القصصي، مناخاً من الخوف، وإن عمد إلى خلخلته بما مرره من طرفة وفكاهة: “لا أستطيع أن أحقق أمنيتكما… إلا إذا أعطاني أحدكما موافقته على الزواج مني، فاندهشت اللقالق، وأومأ الخليفة إلى خادمه أن يخرج معه… أيها الوزير الكبير هذه ليست صفقة جيدة، ولكن يمكنك أن تأخذها. فأجابه الوزير: يا عزيزي، إن زوجتي ستخلع عيني من محجريهما، إن فعلت هذا حين العودة إلى البيت” ص 20.

أجواء سحرية

في مقابل ما منحته الصراعات من توتر، وما أسهمت به من دفع الأحداث إلى الأمام، والإسراع بحركة السرد، منح الوصف، والحوار المسرحي، وقفات واستراحات سردية، وفضلاً عن هذا الدور، عزز الديالوغ حال الإيهام بالحدوث، في حين زاد الوصف والتكنيك البصري من جاذبية المكون الخيالي للقصص، عبر تجسيد الأجواء السحرية، مما أسهم في زيادة التماهي مع النص: “ارتدى النعال وحاول الدوران على الكعب لكن المسكين سقط على أنفه مرات… إلى أن نجح أخيراً. دار موك القزم على كعبه مثل عجلة، وتمنى أن يكون في أقرب مدينة كبيرة. فارتفعت النعال به إلى السماء، وسارت بسرعة البرق عبر الغيوم” ص 83.

كذلك استدعى الكاتب تقنية الحلم، ووظفها في دعم الأجواء السحرية للسرد، وأيضاً في التنامي الدرامي للأحداث، فلم يكن “موك القزم” ليعرف كيفية استخدام العصا، والخفين المسحورين، لولا حلمه بكلب السيدة، التي أخذ من بيتها أشياءه المسحورة، يشرح له طريقة عملها.

هذه الأجواء السحرية، وشت بمدى تأثر الكاتب بروح الشرق، التي تشربها من حكايات “ألف ليلة وليلة”، وبدا هذا التأثر أيضاً عبر ما استدعاه من أسماء شخوص، ومدن عربية، مثل بغداد، الجزائر، مكة، وما استدعاه من تراث ديني، مثل التحصن من الجن، والشر، والمخاوف، وبآيات القرآن الكريم، والتبرك بماء زمزم، إضافة إلى محاكاته قصة النبي سليمان، في فهم لغة الحيوانات ومحادثتها. ومزج هاوف بين ما استدعاه من الشرق، وما التقطه من الغرب، في نسيج قصصي تجولت شخوصه في فضاءات ممتدة، وانصهرت انتماءاتها وخلفياتها وملامحها المتباينة، داخل وحدة النص القصصي.

المصدر: عربية Independent

شاهد أيضاً

بينَ مونتريالَ و بيروتَ

  بقلم الكاتبة حبيبة عبد الستار اديب     عبرتُ من مدينتِي الأنيقةِ  إلى رُبى …