من يشتري كليتي؟ سوق تجارة الأعضاء في مصر

كشفت دراسة صدرت عن منظمة الصحة العالمية أن مصر تعد مركزاً إقليمياً للاتجار بالأعضاء البشرية، وصنفت ضمن أعلى خمس دول على مستوى العالم في تصدير الأعضاء البشرية مع كل من الصين، والفيليبين، وباكستان، وكولومبيا، والأولى على مستوى الشرق الأوسط.

على مدى السنوات الماضية، انتشرت عديد من جرائم الاتجار في الأعضاء البشرية، التي أثارت جدلاً في الرأي العام المصري، بعدما تعددت أساليب وحيل العصابات من “إغراءات مالية، وحسابات وهمية على منصات التواصل الاجتماعي، وتزوير أشعة وفحوص طبية، وتوقيع إيصالات أمانة، ومراكز طبية غير مرخصة”، بحسب ما رصدته “اندبندنت عربية” من وقائع سابقة، وأحاديث مع أطباء ومتخصصين في هذا الشأن.

وعزا أطباء رواج تجارة الأعضاء البشرية في مصر إلى “غياب تشريع منظِّم لعملية نقل الأعضاء”. مؤكدين أن غياب القانون “تسبب في انتشار تلك الجرائم وأسهم في رواجها بالسوق السوداء ولجوء عديد من المرضى للوسائل غير المشروعة”. وإضافة إلى غياب التشريع أصبحت وسائل التواصل الغائبة عن الرقابة “ساحة مفتوحة لمافيا وسماسرة تجارة الأعضاء البشرية”.

“الكلى” بضاعة رائجة

يرى رئيس جمعية الشرق الأوسط لزراعة الأعضاء الدكتور رفعت كامل، أن قانون تنظيم زرع الأعضاء البشرية جرّم البيع والاتجار بالأعضاء البشرية مقابل مبالغ مالية، لكن “شبكات وسماسرة وتشكيلات عصابية تستقطب الضحايا الراغبين في التبرع بالأعضاء نظير مبالغ مالية زهيدة”.

ويضيف كامل، خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “أثناء إعداد قانون زراعة الأعضاء، كانت هناك نداءات لتشديد العقوبات في تلك النوعية من الجرائم لتصل لحد إعدام مرتكبيها، غير أن بعض أعضاء اللجنة آنذاك وجدوا أن تلك العقوبة بها نوع من التشدد، واستقرت اللجنة على أن تصل العقوبة للمؤبد في حالات الاتجار في الأعضاء البشرية”.

ويشير أستاذ زراعة الكبد إلى أنه “طوال 23 عاماً لم يذكر وقوع حالات اتجار في عمليات الكبد على رغم إجراء أكثر من 5000 عملية زراعة كبد، عكس الكلى التي وقعت فيها بعض حالات الاتجار خلال السنوات الماضية”.

وفي سبتمبر (أيلول) من عام 2022، وجّه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بإنشاء أكبر مركز إقليمي لزراعة الأعضاء في مصر والشرق الأوسط وأفريقيا داخل المدينة الطبية الجديدة في معهد ناصر، بالتعاون مع كبرى الشركات العالمية المتخصصة بهدف إنشاء منظومة متكاملة، تشمل قاعدة بيانات لعمليات الزرع، والمرضى، والمتبرعين.

وفي أبريل (نيسان) الماضي، سقط طفل يبلغ من العمر 15 سنة ويقيم في منطقة شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية شمال القاهرة ضحية لعصابات الـ “دارك ويب”، التي جرت بتحريض من مواطن مصري مقيم بالكويت، وصوّر القاتل الجريمة “لايف” عبر الإنترنت، وقطّع أعضاء الضحية، لتسهيل بيعها لدى مافيا تجارة الأعضاء عبر مواقع الإنترنت “الدارك ويب” مقابل 5 ملايين جنيه (102959 دولار أميركي).

وفي مايو (أيار) الماضي، ضبطت الأجهزة الأمنية بمحافظة بورسعيد، سيدة كانت تعتزم تخدير طفلها من أجل استخراج أحشائه وأعضائه الداخلية، وبيعها لمافيا الاتجار بالأعضاء البشرية، بعد أن تواصلت الأم مع أشخاص على مواقع “الدارك ويب”، وطلبوا منها تصوير طفلها وهو عار تماماً، وإرسال فيديوهات وصور له مقابل الحصول على أموال طائلة، وقامت الأم بإعطاء نجلها جرعة زائدة من المخدر، ثم ألقي القبض عليها.

وقبل ثلاثة أعوام أيضاً، تمكّنت الأجهزة الأمنية من ضبط عصابة مكونة من 10 أشخاص من بينهم 3 أطباء وموظفة بأحد معاهد الكلى وموظف في معمل خاص وممرض بمستشفى خاص قامت بأكثر من 100 عملية سرقة أعضاء بشرية، واستقطبت أشخاصاً راغبين في التبرع بأعضائهم من خلال إعلانات نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.

وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 2016، تمكّنت هيئة الرقابة الإدارية من ضبط أكبر شبكة دولية للاتجار بالأعضاء البشرية، تضم 41 متهماً، منهم 12 طبيباً، و8 ممرضين وعدد من أساتذة الجامعة والوسطاء، الذين تمكنوا من تحقيق ثروات طائلة من خلال تلك العمليات غير المشروعة، وتستغل الشبكة، التي تضم مصريين وعرباً، الظروف الاقتصادية لبعض المصريين للاتجار في الأعضاء مقابل مبالغ مالية زهيدة في حين يحصلون على مبالغ مالية باهظة وبيعها للمرضى المصريين والأجانب بملايين الجنيهات وإجراء تلك الجراحات في أماكن غير مرخص لها.

بعيداً من الرقابة وأعين القانون

وعن استخدام الإنترنت في تلك الجرائم، يقول مساعد وزير الداخلية للمعلومات سابقاً اللواء محمود الرشيدي، “منصات التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة مفتوحة ومرتعاً لعصابات وسماسرة الاتجار في الأعضاء البشرية”. مرجعاً ذلك إلى “عدم خضوعها لأي رقابة أمنية أو قانونية، وتمارس أنشطتها الإجرامية والإرهابية بعيداً من أعين القانون”.

وبحسب الرشيدي، فإن عصابات الاتجار بالأعضاء البشرية تستقطب كثيراً من مستخدمي الإنترنت، الذين يرغبون في التربح السريع ويفتقدون للتوعية التكنولوجية، وهو ما يُفسّر أسباب الانتشار الكبير أخيراً لجرائم الـ “دارك ويب”.

ويشير مساعد وزير الداخلية للمعلومات سابقاً إلى أن المشكلة التي تواجه السلطات الأمنية بمصر حالياً أن بعض الصفحات التي تروّج لجرائم الاتجار في الأعضاء البشرية “تُبث من خارج البلاد، والدولة لا تملك سلطة عليها طبقاً لمبدأ (إقليمية القوانين) إلا في حالة وجود معاهدات واتفاقات دولية، أما الصفحات التي تبث من الداخل فتخضع لسلطة الدولة المصرية ويعاقب مرتكبوها وفقاً لقانون مكافحة تقنية جرائم المعلومات”. كاشفاً عن حدوث عديد من الجرائم من منصات تبث من داخل الدولة، لكنها تستخدم “سيرفرات” من خارج البلاد للترويج لتجارة الأعضاء، وبذلك يمكنها الإفلات من الملاحقات الأمنية والقضائية.

وفي رأي الرشيدي فإن خط الدفاع الأول لمواجهة جرائم الاتجار في الأعضاء على منصات التواصل الاجتماعي يكمن في “نشر التوعية التكنولوجية بالاستخدام الآمن والرشيد للإنترنت”.

وكانت الحكومة المصرية قد نفت في مايو (أيار) الماضي تداول منشورات على منصات التواصل الاجتماعي تزعم انتشار عصابات لتجارة الأعضاء تضم من بين أعضائها أطباءً، تستدرج الأطفال واختطافهم لبيع أعضائهم بعدد من محافظات الجمهورية، موضحة أن المنشورات المتداولة مزيفة، ومتداولة بالعبارات ذاتها بشكل متكرر منذ عام 2017.

وفق المحامي بالنقض وعضو اتحاد المحامين الأجانب بألمانيا عمرو عبد السلام فإن سماسرة الاتجار في الأعضاء البشرية “يستغلون حاجة المواطنين المادية للحصول على الأعضاء مقابل مبالغ مالية زهيدة”. موضحاً أن تجارة الأعضاء البشرية “توسّع نشاطها وأصبحت تفوق تجارة السلاح والمخدرات” بحسب عبد السلام.

ويشير المحامي بالنقض، خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية”، إلى أن قانون تنظيم زراعة الأعضاء البشرية رادع، ويتضمن عقوبات حاسمة لمواجهة سماسرة الاتجار في الأعضاء البشرية، وتصل العقوبات إلى السجن المؤبد. مشيراً إلى أن القانون حظر بيع أو تجارة الأعضاء مقابل أي مبالغ مالية.

في السياق ذاته، يقول عضو مجلس نقابة الأطباء سابقاً الدكتور أحمد حسين إن هناك مسارين في هذا الأمر، “أحدهما شرعي والآخر غير شرعي”. موضحاً “الشرعي من خلال تقديم طلب إلى لجنة زراعة الأعضاء من أجل التبرع بالأعضاء بعد الوفاة من الدرجة الأولى، وإذا لم يوجد فيكون من الأقارب وإذا لم يتوافر أيضاً يسمح لمن هم من نفس الجنسية شريطة عدم وجود معاملات مالية، أما المسار غير الشرعي فهو الذي يتبعه مافيا وسماسرة الاتجار في الأعضاء البشرية ويشاركهم بعض الأطباء في تلك الجرائم، وهي تمثل جريمة مخلة بالشرف وتتضمن عقوبات تأديبية وجنائية للأطباء المشاركين”.

ويوضح حسين، خلال حديثه لـ”اندبندنت عربية”، أن عقوبات الأطباء في حالة الاشتراك في تلك الجرائم قد تصل إلى “حد الشطب من النقابة حال ثبوت الجريمة وصدور حكم قضائي نهائي وإغلاق المنشأة بقرار من إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة”. مطالباً بضرورة توفير تسهيلات في عمليات التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، نظراً لوجود عديد من العقبات والعراقيل التي تقف حائلاً أمام هذا الأمر. مشيراً إلى أن التبرع بالأعضاء “أمر جائز شرعاً وقانوناً”.

وكانت نقابة الأطباء المصرية هي أول من اقتـرح قانوناً لتنظيم التبرع بالأعضاء في مصر منذ عدة سنوات، لعدة أسباب من بينها مكافحة التجارة غير القانونية بالأعضاء، وإنقاذ نحو 42 ألف مريض في مصر يحتاجون إلى نقل الأعضاء.

وتسبب غياب تشريع منظِّم لعملية نقل الأعضاء في تمهيد الطريق إلى انتعاش تجارة غير مشروعة في هذا المجال في مصر، حيث يقدم المتبرعون الأحياء نسبة غير قليلة من حاجات العالم من الكلى، طبقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية، ومعظم هؤلاء المتبرعين من الفقراء الذين يقدمون على بيع كلاهم مقابل مبالغ مالية.

رواج التجارة في السوق السوداء

وعزا نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبد الحي، رواج تجارة الأعضاء البشرية غير الشرعية في مصر، إلى عدم تنفيذ قانون تنظيم زراعة الأعضاء ولائحته التنفيذية وحرمان المرضى من “فرص حقيقية للنجاة في حالة تنفيذ القانون”. مشيراً إلى أن غياب القانون تسبب في انتشار تلك الجرائم وأسهم في رواجها بالسوق السوداء ولجوء عديد من المرضى للوسائل غير المشروعة.

وفي أغسطس (آب) عام 2016، أصدرت المجلة البريطانية لعلم الإجرام British Journal Of Criminology، تقريراً صادماً عن تجارة الأعضاء البشرية في مصر، موضحاً أنها تعتبر من أكبر الأسواق في تجارة الأعضاء البشرية في العالم، وأن هذه التجارة آخذة في النمو.

وكشفت دراسة أخرى صدرت عن منظمة الصحة العالمية WHO أن مصر تعد مركزاً إقليمياً للاتجار بالأعضاء البشرية، وصنفت ضمن أعلى خمس دول على مستوى العالم في تصدير الأعضاء البشرية مع كل من الصين، والفيليبين، وباكستان، وكولومبيا، وتعتبر مصر الأولى على مستوى الشرق الأوسط.

ويضيف نقيب الأطباء، خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية”، أن بعض الدول الإسلامية حسمت قضية زراعة الأعضاء من حالات الموت الإكلينيكي، وأقرت بالموافقة عليها مثل السعودية وباكستان والكويت والإمارات، بينما لا تزال تلك القضية معلقة في مصر حتى الآن، “لا يليق أن تظل قضية زراعة الأعضاء في مصر محل نقاش، ويجب أن نبحث عن حلول جذرية لتلك القضية حتى لا نصبح أسرى للسوق السوداء”.

وكانت دار الإفتاء المصرية قد أباحت التبرع بالأعضاء وفق ضوابط وشروط محددة، أهمها وجود غاية طبية ضرورية وملحّة، وموافقة المتبرع، وعدم تقاضي أي مقابل مادي أو معنوي بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك في فتوى حملت رقم 739 بتاريخ 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2003، وفي عام 2009 أجاز مجمع البحوث الإسلامية، التابع لمشيخة الأزهر، في مؤتمره العام، التبرع بالأعضاء للمتوفى، وأباحوا نقل الأعضاء، سواء بين الأحياء أو الأموات إلى الأحياء، وحرموا البيع.

وفي أكثر من مناسبة ناقش مجلس النواب المصري هذه الأزمة، إذ قدم البرلماني المصري أشرف أمين في أبريل (نيسان) الماضي، بياناً عاجلاً بشأن خطف بعض الأشخاص من ذوي السوابق الجنائية والمسجلين “خطر” أحد الأشخاص من ساكني المنطقة، وسرقة أعضائه البشرية، وارتكبوا جريمتهم البشعة كرهاً عنه بأحد الشقق السكنية الكائنة بإحدى العقارات بالمنطقة، قاصدين من جريمتهم الاتجار بأعضائه البشرية.

وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 2016، حذرت النائبة فايقة فهيم، من الوضع المؤسف والمتردي الذي وصلت إليه تجارة الأعضاء البشرية في مصر، بحسب وصفها، لدرجة فاقت تجارة المخدرات. وقالت في طلب إحاطة إن مصر احتلت المركز الثالث عالمياً في تجارة الأعضاء، بعد الهند والصين، بناء على تقرير منظمة التحالف الدولي لمكافحة تجارة الأعضاء البشرية “كوفس”.

المصدر : عربية Independent

شاهد أيضاً

أساتذة الكونسرفتوار وطلابه يتحدون الحرب بالموسيقى

ربما كان صوت الحرب هو الأقوى والأعلى، ولكن تبقى الموسيقى الصوت الأعمق والأبلغ ، ومهما …