المستبدون “الطغاة” شركة متحدة تحكم العالم

جعلت العولمة الأنظمة الاستبدادية أكثر تكاملاً مع بعضها بعضاً وسيطر الحكام على التكنولوجيا بدلاً من أن تسيطر عليهم

لم تساعد العولمة على توسيع دائرة الديمقراطية والحريات بقدر ما خلقت أنظمة تواصل جديدة بين الأنظمة الديكتاتورية والطغاة، ويظل المال أو الصفقات هي التي تحكم التواصل بين أنظمة طابعها الفساد بوصفه منظومة مؤسسية في حين يبقى هناك من يعيشون فقراء في الهامش في بلدان تبدو ناجحة اقتصادياً. يبحث الكتاب في إشكال الديمقراطية في العالم اليوم ومستقبلها بتحليل دقيق لهذه المسائل.

قبل أيام قليلة كتب اثنان من أساتذة العلوم السياسية الأميركيين، هما دارون عاصم أوغلو وجيمس أ. روبنسون، مقالة في “نيويورك تايمز” يقدمان فيها حلولهما لأزمة الديمقراطية في أميركا. في معرض تشخيصهما للأزمة أوردا إحصاءات مفزعة بشأن الموقف العام، أو الشعبي، من فكرة الديمقراطية نفسها، وتأييد المؤسسات الضرورية لممارستها، ونسبة مؤيدي العنف السياسي وهو النقيض للفكرة الديمقراطية  برمتها. يأتي المقال في سياق التخوف من وصول دونالد ترمب مرة أخرى إلى البيت الأبيض، وهو تخوف تزداد مبرراته كلما اقتربنا من موعد الاقتراع.

 

غير أن الديمقراطية ليست مأزومة في الولايات المتحدة وحدها، فالبقع المعرضة لخطر الانزلاق إلى الاستبداد تنتشر على خريطة العالم بسرعة سرطانية، والأخطر من هذه البقع أن خيوطاً تمتد في ما بينها، فكأن شبكة عالمية تتكون من الدول الاستبدادية. ومهما بدا ذلك داعياً للتشفي والشماتة في الغرب الذي لا يبخل على مناوئه بتجديد وتكثير مبررات الشماتة في أزماته، لكن التفكير الأولي يبين لنا جسامة الخطر على كل إنسان في هذا الكوكب من انتشار الاستبداد.

ويبدو أن ما يكونه الاستبداد في العالم ليس شبكة بالضبط، ولكن شركة، بحسب الصحافية والمؤرخة الأميركية آن آبلباوم في كتابها الجديد “شركة الاستبداد المتحدة: الطغاة الذين يريدون أن يحكموا العالم” الصادر حديثاً عن دار آلن لين في مئتين وثلاثين صفحة تقريباً.

“ولاء الفاسدين”

يرد في استعراض مجلة “إيكونميست” للكتاب (18 يوليو/ حزيران 2024) أن “هوغو تشافيز انحاز في عام 1999 إلى خيار. كان قد فاز برئاسة فنزويلا واعداً بإحداث تغيير ثوري، وجاءه رئيس الشرطة الداخلية بدليل على فساد في نظامه، وعلى قيام بعض كبار المسؤولين بالسرقة من صندوق مخصص للفقراء. فأنصت له تشافيز، ولم يقل شيئاً، ثم صرفه من الخدمة، وفهم المقربون الرسالة: لو أن ولاءكم لي، فبوسعكم أن تسرقوا ما شئتم. كان تشافيز يريد البقاء في السلطة إلى الأبد، وراهن على أن المسؤولين الفاسدين سيكونون أطوع له من الأطهار، وكان على حق بحسب ما تكتب آن آبلباوم”.

“اشتهرت آبلباوم بكتابتها التي أرخت لمعسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفياتي وحصلت بها على جائزة “بولتزر”، لكن كتابها الجديد “شركة الاستبداد المتحدة” أقصر وأهم. مهما تكن أيديولوجية الطغاة المعلنة، فالمعهود فيهم اليوم أنهم لا يكادون يريدون شيئاً عدا السلطة ذاتها وما معها من غنائم. ولهم عدو مشترك، هو آليات مساءلة السلطة، والعالم الديمقراطي الذي يتبنى هذه الآليات. وهذا العدو المشترك هو الذي يحفزهم على التعاون ونسج شبكات دعم مشترك عالمية”.

فعلى سبيل المثال، عندما فرضت أميركا عقوبات على فنزويلا، تقدمت شركات الطاقة الروسية العملاقة للاستثمار في النفط الفنزويلي. وساعدتها كوبا في التجسس على شعبها واستعمال الأغذية سلاحاً لتجويع المعارضة. وبعث حكام إيران الدينيون البترول والطعام لحكام فنزويلا الاشتراكيين الذين تردد أنهم يغسلون الأموال لـ”حزب الله” الموالي لإيران. ويمثل رئيس زيمبابوي تجسيداً للعقلية الاستبدادية الجديدة، فعلى رغم كونه محارباً مخضرماً للاستعمار، فقد رحب ترحيباً بالغاً بغزو روسيا الاستعماري لأوكرانيا، وكوفئ على ذلك بهليوكوبتر ابتهج بها قائلاً: إن من حق ضحايا العقوبات أن يتعاونوا في ما بينهم”.

تصوير البديل المروع

فضلاً عن أن العلاقات القائمة بين طغاة العالم، أو حكامه غير الديمقراطيين إن شئتم تخفيف اللغة، هي في جوهرها معاملات ومن ثم فإن لها حدوداً، فإن “كل الطغاة تجمعهم الرغبة في تصوير البديل الديمقراطي باعتباره مروعاً. ودعايتهم كاذبة (من قبيل أن الحكومات الأوروبية تأخذ أطفالاً للعائلات السوية وتمنحهم لأزواج مثليين!) لكنها – هذه العلاقات – قائمة على فهم بارع لانقسامات الغرب، إذ تكتب آبلباوم أن “الأميركيين الذين نادراً ما يفكرون في روسيا سيذهلون لو عرفوا كم الوقت الذي يخصصه التلفزيون الروسي الرسمي لحروب أميركا الثقافية. وموقف بوتين باعتباره حامي حمى الأسرة التقليدية في مواجهة إمبريالية الغرب الثقافية له فعالية كبيرة جعلت طغاة آخرين ـ من أفريقيا إلى وسط آسيا ـ يستنسخونه”.

“وفي بعض الأحيان تستعير الأنظمة القمعية أبواق بعضها بعضاً. فعندما أسقطت شبكة أقمار اصطناعية حسنة السمعة قناة (آر تي) الناطقة باسم الكرملين بدأ قمر “ستارتيمز” الاصطناعي الصيني في بثها. وعبر أفريقيا والشرق الأوسط رحب الطغاة بتجاهل الصين لانتهاكاتهم وساعدوها في موقفها من الغرب”.

“تبدي آبلباوم تخوفاً من أن شركة الطغاة المتحدة تسمم العقول وتفسد صناع القرار في الغرب الديمقراطي فتؤكد أنه ما من ديمقراطية آمنة، وفي ضوء أن دونالد ترمب هو المرشح الأوفر حظاً لاستعادة الرئاسة الأميركية، وفي ضوء نسب مذهلة للأميركيين الذين يعربون عن إقرارهم للعنف السياسي، فمن السهل تبنِّي تشاؤمها”.

تناقض الأنظمة

يستعرض مايكل إغناتيف الكتاب في (ليتراري رفيو) فينسب إلى خبراء تقديراً بأن ثلاثة أرباع سكان العالم يعيشون في ظل أنظمة حكم استبدادية! ويكتب أن كتاب آبلباوم يكشف التماثلات بين هذه الأنظمة ذات الزعيم الواحد والحزب الواحد وشبكة الاتصالات التي أسسوها والخطر الذي يمثلونه على الشعوب الحرة. “لكن مشكلة تحليلها تكمن في أن هذه الأنظمة تختلف عن بعضها بعضاً بقدر ما تتشابه”.

“تحتاج الأنظمة الأوتقراطية، شأن الأنظمة الديمقراطية، إلى شرعية لدى شعوبها. وفي كل حالة يختلف مبدأ الشرعية، فقد يزعم الحزب الشيوعي لشي جينبينغ أنه رفع مستويات معيشة الشعب خلال خمسين عاماً وجعل من الصين قوة عالمية، وفعل ذلك من خلال العمل داخل النظام الاقتصادي العالمي الذي أرسى الأميركيون قواعده بعد عام 1945، وأن الصين تتحدى الآن الهيمنة الأميركية، لكنها لا تحارب الاقتصاد المفتوح الذي تضمنه الهيمنة الأميركية. في حين يختلف نظام بوتين الاستبدادي تماماً، إذ لا مصلحة له في الحفاظ على النظام الاقتصادي العالمي الذي أخرجته منه العقوبات على أي حال. ولا تقوم شرعيته على أساس رفع مستوى معيشة الشعب، إذ إن أغلب الناس خارج سان بطرسبرغ وموسكو فقراء مثلما كانوا في عهد الشيوعيين. لكنه أقام مستقبل نظامه على إعادة فتح الإمبراطورية الروسية المفقودة. وفي حال نجاحه في أوكرانيا، سوف يبقى نظامه لأجيال، وفي حال فشله سوف ينهار ويتعين على الصين أن تنأى بنفسها عن الحطام. أما بقية الأنظمة الاستبدادية في العالم فرثة لا وزن لها أو تأثير في العالم، وهذه الفئة المتباينة، من أسرة كيم في كوريا الشمالية إلى النظام الثيوقراطي في إيران إلى الحكومات الكليبتقراطية في زيمبابوي وسوريا وفنزويلا تتشبث جميعاً في السلطة بالقوة والقصور الذاتي والفساد”.

في مواجهة الأمركة

“والسؤال الجوهري بشأن هذه الأنظمة الاستبدادية هو السؤال عما لو أنها يوماً ما سوف تصطف مجتمعة في مواجهة أميركا وحلفائها… ودراسة آبلباوم المسحية لا تطرح هذا السؤال حول قدرة أو عجز هذه الأنظمة على تمثيل تحدٍ عسكري منسق جماعي في مواجهة القوة الأميركية ونظام القواعد الذي وضعته الولايات المتحدة بعد عام 1945، ولكنها تذهب إلى أنها يقيناً تضمر النية لفعل ذلك فتكتب عن خطة واعية لتقويض شبكة أفكار وقواعد ومعاهدات أقيمت وأدرجت في القانون الدولي منذ عام 1945 لتدمير النظام الأوروبي القائم منذ ما بعد 1989، تحقيقاً لغاية أهم من ذلك هي الإضرار بنفوذ وسمعة الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين. لكن أي خطة واعية هي هذه الخطة؟ وخطة من هي على وجه التحديد؟ صحيح أن بوتين وشي التقيا مرات لا حصر لها وتعهدا بشراكة غير محدودة، وكلاهما يقول إنه يريد عالماً متعدد الأقطاب ويقصدان بذلك نهاية الهيمنة الأميركية، لكن هذا لا يعني أن لديهما القدرة أو الرغبة في المخاطرة بمواجهة عسكرية شاملة مع الولايات المتحدة، فضلاً عن تعارض بين مصالحهما في نهاية المطاف، فلا يزال يبدو أن شي بحاجة إلى الاقتصاد الدولي المفتوح للصادرات الصينية في حين أن روسيا بوتين دولة نفطية لا يمكنها البقاء خارج الاقتصاد العالمي إلا ببيع النفط للصين وإيران وكوريا الشمالية. وفي حين أن آبلباوم تطرح حجة متماسكة للاستياء المشترك من السلطة الأميركية، فإن التنسيق بين المصالح الاستراتيجية الجوهرية والعزم المشترك على المخاطرة بالمواجهة أمر مختلف تماماً. وعلى رغم كل ما يجري من حديث حول ’محور المقاومة’ فليس من الواضح إن كانت هذه الأنظمة المستبدة شديدة الاختلاف تمتلك القدرة أو حتى الرغبة في التصعيد إلى تحد عسكري منسق بينها للقوة العسكرية الأميركية والغربية الديمقراطية المنعمة بحمايتها المتقطعة”.

المال رابط جوهري

“وفي حين أن آبلباوم تعجز عن طرح حجة مقنعة بأن هذه الأنظمة تخطط لمواجهة مشتركة مع القوى الغربية، فهي تطرح فعلياً تحقيقاً كاشفاً في الروابط ما بين هذه الأنظمة. والرابط الجوهري هو المال، ومن هنا تأتي كلمة (الشركة) في عنوان الكتاب. فالطغاة يستغلون سلطة الدولة في انتزاع الموارد من شعوبهم ومن كل عقد يبرمونه مع بعضهم بعضاً، وتنتهي الأموال في جيوبهم الخاصة. ثم إنهم يتعاونون فيغسلون الأموال القذرة لبعضهم بعضاً ويودعون المكاسب غير المشروعة في المؤسسات المالية التابعة لكل منهم… تكتب آبلباوم: أن الشركات الفاسدة التابعة للدولة في إحدى الديكتاتوريات تتعامل مع الشركات الفاسدة التابعة للدولة في دكتاتورية أخرى… وهم يبيعون لبعضهم البعض أحدث تقنيات القمع في محاولة للسيطرة على الإنترنت وعلى مواطنيهم. والقائمة التي تقدمها آبلباوم بهذه العلاقات شاملة وكاشفة، ولكن ها هنا أيضاً تظهر أهمية الاختلافات القائمة بين الأنظمة الاستبدادية. فلم يسبق لبوتين أن شن حملة منسقة ضد الفساد داخل نظامه. إذ إن أسلوبه المفضل هو أن يرمي المحتالين الأكثر وضوحاً من النافذة. في حين أن شي في الصين قد شن حملة منذ عام 2012 على جميع كوادر حزبه في محاولات لاستئصال الفساد في مكاتب الحزب المحلية والإقليمية. في روسيا، يمثل الفساد جوهر النظام، ولكنه في الصين إساءة يكافح النظام من أجل السيطرة عليها”.

الطغاة والتكنولوجيا

يستهل جون سيمبسن استعراضه للكتاب (غارديان-17 يوليو 2024) بقوله إنه ظل حتى عام 2016 متفائلاً بالعالم، فديمقراطياته كانت أكثر من دكتاتورياته، ثم تدهور كل شيء، بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتولي ترمب السلطة وغير ذلك من آيات التدهور التي يرصدها، ومنها أنه “بدلاً من أن تسيطر التكنولوجيا على الطغاة، سيطر الطغاة على التكنولوجيا. وفي عصر الاستبدادية الجديد هذا، يدير أمثال رجب طيب أردوغان وناريندرا مودي وفيكتور أوربان بلاداً بأكملها لما فيه مصالحهم السياسية الشخصية، ويجددون طاقاتهم بين الحين والآخر بانتخابات يتلاعبون بها ببراعة”.

يرى الكاتب مايكل إغناتيف في استعراضه لكتاب”شركة الاستبداد المتحدة” بأن ثلاثة أرباع سكان العالم يعيشون في ظل أنظمة حكم استبدادية! 

المصدر: (اندبندنت عربية)

شاهد أيضاً

«المصرى اليوم» داخل «وادي الابتكار» بالصين

كيلومترًا تبعد مدينة سونجيانج عن وسط مقاطعة شنغهاى الصينية لتكتشف مدينة العلوم أو المعروفة باسم …