حين انطلق “القانون في الطب” غازيا مستشفيات العالم خلال الزمن النهضوي

أعاد ابن سينا المسألة إلى أبعادها العقلانية في موقف مناوئ للمعتقدات السائدة متصدياً للمجتمعات التي كان فيها من يعتبر الطب نفسه رجساً من فعل الشيطان. وساعد بذلك الفيلسوف والطبيب الجريء على جعل كتابه سلاحاً بيد المدافعين عن الإنسان وصالحه في نوع من ربط غير متوقع مع عصور “العقلانية الإغريقية”، إذ أتى بكتاب من شرقنا حينها ليعلم أوروبا كيف يكون العلم والطب.

من ناحية مبدئية وبالنسبة إلى كثر من مؤرخي التراث العربي والإسلامي بصورة عامة، يعد “القانون في الطب” لابن سينا، الكتاب الذي أسقط مؤلفات طبية عربية وفارسية كثيرة عن عروشها التي احتلتها في مجالاتها عند نهايات الألفية الأولى من تاريخ العالم، أي تحديداً في الزمن الذي عاش فيه ابن سينا ووضع هذا المؤلف الضخم وفريد نوعه في تلك الأزمنة الإنسانية المبكرة.

غير أن قوة هذا الكتاب لا تكمن هنا فقط، بل أكثر من ذلك في كونه موسوعة طبية ظل الطب وصناعة الأدوية الأوروبيان يعتمدان عليها من دون أية حاجة إلى تطويرها طوال ما يتجاوز نصف الألفية من الأعوام، على رغم معرفة العلماء والأطباء بأن الطب هو العلم الأكثر حاجة إلى أن يكون تجريبياً، انطلاقاً من كونه يتعامل مع أمراض وأدوية وممارسات يحمل كل يوم جديد وكل حال طارئة ضرورات تطويرها، لكن علماء ومؤرخي تلك الأزمنة النهضوية اعتبروا أن ابن سينا وفي تلك الموسوعة قد قال كل شيء ولم يترك زيادة لمستزيد.

طبعاً قد يكون هذا الاستنتاج صحيحاً وقد لا يكون، من الناحية النظرية في الأقل، لكنه من الناحية العملية لا يفعل أكثر من كونه يصف واقعاً عملياً قد يمكن الاحتجاج عليه لكن لا يمكن نكرانه. ومن هنا ومن دون أن نصل إلى حد القول مع بعض المبالغين بأن موسوعة ابن سينا بقيت حية على رغم مرور كل تلك الأعوام، إنما فعلت ذلك انطلاقاً من كونها تحمل من المبادئ ومن المناهج ما يضفي عليها ذلك التميز، بصرف النظر عما تحمله من تطبيقات عملية في مجالها الطبي الاستشفائي وما يتعلق به من تطبيقات مادية بحتة.

عودة إلى الجذور

في نهاية الأمر، صحيح ما يقوله بعض المتخصصين من أن “القانون في الطب” موسوعة تبدو في نهاية الأمر كنوع من العودة العربية إلى تلك الجذور التي زرعها هيبوقراط من ناحية وغاليانوس من ناحية أخرى، غير أن المقارنة بين هذين العالمين الأغريقي – اللاتيني، وعمل ابن سينا الفريد من نوعه في ذلك الحين، ستبدو مدهشة من ناحية دفعنا إلى اعتبار الموسوعة السينوية عملاً استثنائياً تبرر استثنائيته المكانة التي ظلت له في أوروبا طوال كل تلك المئات من الأعوام دون أن تكون ثمة حاجة إلى إعادة النظر فيه.

بل ربما يكفينا للتيقن من ذلك أن نستعرض مواصفات هذا الكتاب – الموسوعة. فـ”القانون في الطب” هذا الذي ظل على حاله طوال كل ذلك الزمن، لكنه لم يبق كذلك في المتاحف أو المكتبات بل دائماً بين أيدي الأطباء وفي العيادات والمستشفيات وحتى في الجامعات، هذا القانون يتكون من أجزاء يتوزع كل منها على مئات الصفحات التي تكاد كل واحدة منها تكون بحثاً علمياً في حد ذاتها. واللافت في الأمر هنا هو تلك الدقة التي يمكن متابعتها في منهجية التوزيع العلمي والعملي للفصول التي تتوزع عليها الأجزاء في دقة لا تضاهى.

هندسة منهجية محكمة

بصورة عامة تنقسم هذه الموسوعة الاستثنائية إلى خمسة أجزاء تتفاوت في عدد صفحاتها لكنها تتسم بأهمية وحداثة متعادلة بالنسبة إلى زمنها كما بالنسبة إلى الأزمان التالية. ويعالج الجزءان الأول والثاني تشريح الجسم البشري من الناحية الفيزيولوجية والعلاجية والصحية كذلك يدخلان في تفاصيل الأدوية والترياقات المختلفة التي يحتاج إليها كل طرف من أطراف هذا الجسم، وفي المقابل يتناول الجزءان الثالث والرابع المناهج التي يتعين اللجوء إليها بغية التعامل مع كل جزء معين من أجزاء الجسم كما التعامل مع أمراض غير محددة في جزء محدد منه.

أما الجزء الخامس فإنه يتعامل مع تركيب وتحضير الأدوية، ويمتلئ هنا بجملة من ملاحظات بالغة الأهمية يدخل المؤلف في تفاصيلها. ومن ثم فإن العودة إلى الجزء الأول في تفاصيل التفاصيل تبدو لنا بالغة الأهمية من جهة أن ابن سينا يحدثنا عن أسلوب استخدام الماء والشمس في المعالجة نفسها كما ينتقل من ثم إلى المناهج الأكثر نجاعة في طب الأطفال والعجائز، إذ يفيدنا المعلقون الأوروبيون القدامى على الموسوعة بأنهم كثيراً ما ذهلوا “أمام  الغنى المبهر في حديث ابن سينا عن الأدوية وضروب الترياق الطبيعي التي ينصح بها وبخاصة في معالجة الارتباكات المعوية واضطرابات المعدة وفاعلية كثير من الأعشاب والمواد الآتية من الطبيعة التي تكشف ثروة هائلة كان يملكها في مجال التداوي بالأعشاب”.

قاموس للأدوية وما يشبهها

أما الجزء الثاني فإن صفحاته بأسرها لا تحوي إلا قاموساً مؤبجداً بأسماء ومواصفات مئات الأدوية والترياقات المعروفة وغير المعروفة في تلك الأزمنة، مع تفاصيل معظمها غير مطروق من قبل تتعلق بفاعلية وتركيب كل دواء من تلك الأدوية، وصولاً إلى تحديد الأعشاب الضارة بل حتى أهميتها حين لا يكون من سبيل للاستغناء عنها وإحلال أخرى أقل ضرراً منها، مع التنبيه إلى أساليب التصدي لما تحمله من أخطار جانبية وكيف يمكن تجنبها.

 

وإذا كان الجزء الثالث يبدو مختصاً بدراسة آلام الرأس المتنوعة وكيفية التصدي لها، كما يدرس ابن سينا في هذا السياق الدور الذي يلعبه قصب السكر على سبيل المثال في معالجة تلك الآلام، فإن الجزء التالي يختص بالحديث البالغ الخطورة عن آلام الدماغ ومعالجتها. وكذلك الحال في الجزء الخامس في ما يتعلق بآلام الجهاز التنفسي التي ينطلق منها لتقديم ما يقارب الـ100 فقرة مخصصة لآلام القلب وما يدانيه من فقرات تتعلق بما يصيب المعدة والكبد والأمعاء.

ومن الطبيعي ألا ينسى ابن سينا في هذا الإطار أنواع الحمى وما يتعلق بتشخيص شتى أنواع العوارض الأخرى، لا سيما أمراض الجهاز التناسلي وما يتعلق بالخصوبة والإنجاب، مولياً أهمية بالغة للتشخيص المتعلق بإنجاب الصبيان أو البنات. وكذلك لا ينسى تلك الشؤون البالغة الخطورة المتعلقة بالجراحة في ما يتعلق بكل عضو من أعضاء الجسم.

تجديد للمفاهيم العلمانية

والحقيقة أننا يمكن أن نستطرد إلى ما لا نهاية في هذا التوصيف من دون أن نفي هذا الكتاب حقه، ومع ذلك لا بد من أن ننوه هنا بنقطة قد لا تخطر على البال تتعلق بالكتاب، وهو أن من أهم ما فيه أنه يتوقف طويلاً لا سيما في التفاصيل التي تبدو للوهلة الأولى عابرة وتتعلق بما يمكننا هنا أن نسميه الطب العلماني والعلمي، ليتخذ هذا الأمر أهميته المطلقة من واقع أن المفاهيم الغربية كانت مسيطرة في ذلك الزمن على المجتمعات التي ظهر “كتاب القانون” في أحضانها، وتتسم باتكال على الإيمان المطلق في مجال التعامل مع الأمراض باعتبارها قدراً محتماً لا يمكن للبشر التصدي له، وكان ذلك سائداً على أية حال في معظم المجتمعات التي كانت قد أحلت الإيمان الغربي محل قيم العلم العقلانية في المسائل الطبية والاكتفاء بالتحدث عن القدر ودوره في المرض والشفاء.

وفي المقابل أعاد ابن سينا المسألة إلى أبعادها العقلانية في موقف مناوئ للمعتقدات السائدة، متصدياً للمجتمعات التي كان فيها من يعتبر الطب نفسه رجساً من فعل الشيطان. وساعد بذلك الفيلسوف والطبيب الجريء على جعل كتابه سلاحاً بيد المدافعين عن الإنسان وصالحه في نوع من ربط غير متوقع مع عصور “العقلانية الإغريقية”، إذ أتى بكتاب من شرقنا حينها ليعلم أوروبا كيف يكون العلم والطب، فتلقفته مترجمة إياه إلى اللاتينية وإلى لغات محلية أخرى ظلت تستخدمه وتسير على هديه مئات الأعوام  لكنها حتى حين تبدلت الأزمنة مع القرنين الـ16 والـ17 لم ترمه في غياهب النسيان، بل طورته واقتبست كثيراً منه فعاش حيوات جديدة، بحيث إننا لا نزال نلتقيه أو في الأقل نلتقي أجزاء كثيرة منه في كتب الطب المحدثة منذ ذلك الحين حتى لو جهل كثر أنها سينوية الجذور.

المصدر: اندبندنت عربية

شاهد أيضاً

تعرف على 5 من أفضل ابتكارات عام 2024

تجري مجلة “تايم” Time الأميركية استفتاءات لاختيار أفضل 200 ابتكار واختراع نهاية كل عام في …