أرخت الحرب المدمرة بظلالها على دورة الحياة في لبنان، على المستوى القريب زمنياً، مواطنون غير قادرون على الوصول إلى منازلهم، أما على المدى البعيد زمنياً، دمار يتجاوز الحجر إلى الكائنات الحية من نبات وحيوان وتربة ومياه ، وسط جبال من الركام ومشاهد الدمار، يرتسم حاضر اللبناني ومستقبله اجتماعياً وصحياً واقتصادياً، ويمتزج أمل العودة إلى “الأراضي المحروقة” مع القلق من آثار القنابل المدمرة والحارقة للأجساد والبيئة، وذاكرة حواضر جبل عامل في الجنوب وبعلبك في الشرق وبيروت العاصمة.
وبين هذا وذاك، أفرزت الحرب شريحة من الناس يمتهنون ركوب الخطر، والدخول إلى المناطق المدمرة تماماً أو تلك المعرضة للقصف الإسرائيلي، وهنا المخاطرة تتعدد أسبابها بين من يريد إحضار ما بقي من أثاث ومستندات ومقتنيات ثمينة للأهالي النازحين والهاربين من الموت، لقاء بدل مالي “مغرٍ” في كثير من الأحيان، أو من يريد فقط تصوير وتوثيق ما خلفه القصف من دمار وموت في كل مكان، فيما يقصد بعضهم هذه المناطق بهدف السرقة من المنازل المتروكة.
بحثاً عما بقي
مع اشتداد القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان في الـ23 من سبتمبر (أيلول) الماضي، شهدت عشرات المدن والبلدات حركة نزوح جماعية، وخرجت العائلات مسرعة من دورها خشية تحولها إلى مصيدة لأرواحهم، وترك هؤلاء في المنازل مقتنياتهم، وحدها الملابس الصيفية وبعض الأوراق الثبوتية ومصاغات ذهبية رافقتهم إلى دار المقام الجديد والموقت.
يؤكد محمد أن “العائلة غادرت بلدة دير قانون مع أمل في العودة” و”ظنت أن الحرب ستكون قصيرة لذلك لم تحمل معها إلا الملابس الصيفية والأوراق الثبوتية”. مرّت الأيام، وطال الغياب عن البلدة، بدأ بعض الأهالي يفكر بالمخاطرة والتوجه إلى الضيعة من أجل إحضار بعض الأغراض. ويضيف الشاب العشريني أن هناك أشخاصاً باتوا متخصصين في مرافقة الأهالي، فيتحملون الأخطار من أجل التوجه إلى القرية وجلب ما أمكن من المنازل التي ما زالت قائمة.
وخلقت تلك الحرفة كثيراً من المشكلات في القرى وفتحت الباب أحياناً أمام سرقات، لذلك بدأ ما بقي من سلطة محلية وقوى أهلية بعمليات الضبط، ومنع هؤلاء من الدخول، إذ لا يمتلك الدفاع المدني القدرة على مساعدتهم ولا يشجعهم على ذلك لضرورة الابتعاد من المناطق الخطرة.
ويؤكد مدير المركز الإقليمي للدفاع المدني في مدينة صور الجنوبية موسى نصرالله أنهم “ينصحون بعدم الدخول إلى الأماكن المعرضة للقصف لأن ذلك سيجعل نفسه هدفاً محتملاً للغارات، ويزيد احتمالات سقوط ضحايا إضافيين”، كما “جرى التعميم على عناصر الدفاع المدني بعدم الذهاب لتفحص مساكنهم لأن الطرقات غير آمنة”.
في الموازاة، شهدت أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت وضع بعض العوائق والسواتر لإعاقة عمليات الدخول والخروج غير المنضبطة، والحد من احتمالية السرقة لممتلكات النازحين. فيما يؤكد مواطنون أن الحركة ما زالت ممكنة في مناطق الأطراف ومحصورة في قلب الضاحية.
وفي السياق نفسه، نجح كثير من أهالي قرى الخط الثاني جنوب لبنان بإخراج بعض الأمتعة الشتوية والأوراق الثبوتية لقاء بدل مادي. فيما يستحيل الوصول إلى قرى الخط الأمامي بفعل العملية العسكرية البرية الإسرائيلية في المناطق المطلة على الحدود الجنوبية اللبنانية، وقد تم توثيق تدمير 22 قرية عبر تفجير غالبية منازلها، لعل آخرها قرية ميس الجبل.
الركام الخطر
وخلفت الهجمات الإسرائيلية أكواماً من الركام وفتحت الباب على أخطار صحية وبيئية عظيمة، ويحذر الخبراء الكيماويون من تأثيرات إضافية لحروب الشتاء، بحسب الخبير إسماعيل عباس الذي يتحدث عن تسرب أجزاء من محتويات الردم إلى المياه الجوفية، ومن ثم تلويثها إذ يمكن أن تتسرب الأجسام الصلبة على غرار المعادن الثقيلة مثل الرصاص والزئبق والكادميوم، إضافة إلى المركبات الكيماوية والمعدنية التي يتشكل منها الطلاء والأنابيب، وبقايا الأجهزة الكهربائية، ناهيك عن مكونات الذخائر المستخدمة في عمليات القصف، وهي كلها مجتمعة تصبح أشبه بالقنبلة الموقوتة تحت الركام.
ويلفت عباس إلى أضرار مضاعفة ناتجة من قصف الأبنية التي تكون المولدات والسيارات في نطاقها، إذ يؤدي احتراق الزيوت والمواد الموجودة بداخلها إلى انبعاثات سامة ينتج منها تلويث الهواء والتربة والمياه. وينبه كذلك إلى أضرار مضاعفة لمواد التنظيف المخزنة في المنازل التي تمتزج مع مياه الأمطار، وتتسرب إلى باطن الأرض، محذراً مما ينتج من قصف المباني التي تدخل في بنيتها مادة “الأسبستوس – الإترنيت” التي شاع استخدامها في لبنان خلال النصف الثاني من القرن الـ20.
ويتطرق عباس إلى آثار استهداف المراكز الطبية والمستشفيات التي يمكن أن تضم مواد كيماوية، وأحياناً مواد مشعة تستعمل في عمليات التصوير وعلاج مرضى السرطان، أو خطرة كالمذيبات والأدوية، وكذلك النفايات الطبية والإبر والضماد والسوائل الجسدية، وأنظمة الصرف الصحي التي تضم نفايات حيوية غير معالجة، مؤكداً أن لاحتراق تلك المواد، إلى جانب الأجهزة الطبية، وما ينتج منها من انبعاثات، آثار خطرة على الفرد والبيئة معاً.
جثث تنتظر وقف النار
إلى جانب جزيئات الركام، يستمر خطر تحلل الجثث العالقة تحت الركام التي تنتظر وقف إطلاق النار لانتشالها، ويؤكد رئيس مركز الدفاع المدني صور موسى نصرالله أن غالبية الجثث العالقة تحت الأنقاض تحللت، ولم يبقَ منها إلا بعض العظام والأشلاء. ويعزو ذلك إلى عدم امتلاك فرق الدفاع المدني الإقليمية الكلاب البوليسية المدربة على الكشف عن الجثث، والاضطرار إلى استخدام الطرق البدائية في عمليات البحث عنها. ويقول “لا نقصر في عمليات البحث عن الجثث العالقة، وينتهز الدفاع المدني أي فرصة ويطلب مؤازرة استخبارات الجيش لإرسال فرق إلى القرى المحاصرة”، مردفاً أنه “فور انتهاء الحرب ستكون أمامنا مهمة شاقة، تبدأ بواجب الكشف الميداني عن الجثث المفقودة”، ناهيك عن ضرورة العمل لإزالة الركام الذي واجهت الفرق الإغاثية صعوبة في التعامل معه خلال الحرب، وعملت على نقله إلى أطراف الطرق والتخلص من العوائق، تمهيداً لجعلها سالكة أمام المارة والسيارات.
بقاء الفرق الإغاثية
أيضاً أرخى الدمار بظلاله على الأهالي، وحرم هؤلاء من فرصة زيارة منازلهم بسبب الغارات والطيران المسيّر الذي يغطي سماء الجنوب، وأثّر كذلك في حياة من اختار البقاء في المدن والقرى الجنوبية، إذ يستفيد هؤلاء من بقاء الفرق الإغاثية على الأرض لتقديم الخدمات بما توافر من إمكانات.
وتستمر فرق الدفاع المدني بالعمل وفق خطط استثنائية للتدخل، تتضمن الكشف السريع وتأمين الحاجات، ومن ثم الانسحاب وإخلاء المناطق الساخنة والتمركز في مناطق آمنة نسبياً، بحسب مدير مؤسسة التدريب التابعة للدفاع المدني اللبناني نبيل صالحاني الذي يشرح أن هناك نوعين من الدمار، دمار لوجستي لأبنية تسبقه إنذارات، فيأتي التدخل لإطفاء الحرائق وتقييم الأضرار، ودمار ناجم عن هجمات مفاجئة، فيسقط عدد كبير من الضحايا المدنيين عند كل محاولة اغتيال، وتفرض عمليات كهذه تحدياً كبيراً على الفرق الإغاثية، على غرار ما جرى في البسطة الفوقا حيث تستمر أعمال رفع الأنقاض بسبب الكثافة العمرانية والسكانية لأحياء بيروت الشعبية.
ويتحدث نصر الله عن تجربة العمل في المنطقة “على رغم الظروف الصعبة والخطرة بفعل وجود الطيران الذي لا يغادر الأجواء والقصف المدفعي وانعدام الإنارة ليلاً، وضآلة الإمكانات في مواجهة تدمير مبانٍ من طوابق عدة دفعة واحدة، إذ تضطر الفرق إلى تكرار أعمال الإطفاء بفعل وجود مواد قابلة للاشتعال في المنازل والمؤسسات، ناهيك عن الاستهداف المباشر للفرق الإغاثية الذي أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا في صفوفهم”.
ويوضح نصرالله أنه “في ظل الأوضاع الراهنة، تقوم الفرق بفتح الطرقات وإزاحة الركام إلى الأطراف بسبب عدم وجود الإمكانات لنقله”، مشيراً إلى التعاون مع الجيش اللبناني وقوات الطوارئ الدولية “يونيفيل” للتنسيق من أجل الدخول إلى بعض القرى المستهدفة لإخراج جثث من تحت الردم، فعلى سبيل المثال، دخلت الفرق إلى بلدة المالكية الجنوبية، وانتشلت جثة واتضح أنها مهشمة بعضات الكلاب.
الدخان القاتل
وتتسع دائرة الضرر بسبب الغارات لتشمل المناطق اللبنانية كافة بفعل انتقال الدخان الناجم عن القصف بواسطة الهواء. وتغطي غيمة من الدخان سماء بيروت بفعل الغارات المستمرة دون انقطاع على العاصمة وضاحيتها الجنوبية. وهنا تحذر النائبة نجاة عون صليبا من أخطار تلك الانبعاثات الناجمة عن الغارات على شكل دخان أسود، وموجة هائلة من غبار سقوط الأبنية، لافتة إلى “وجود عاملين مؤثرين في حال كهذه، الأول هو الكمية التي يتعرض لها الفرد، والفترة الزمنية للتعرض”.
وتستنكر عون تجمهر المواطنين لرصد الغارات والتصوير لأنهم يصبحون أكثر عرضة للشظايا والزجاج المتطاير والأدخنة، مطالبة الصحافيين وعمال الإغاثة بارتداء الكمامات لتحسين نوعية الهواء، وتنبه إلى آثار الحرائق الناجمة عن المواد المشتعلة التي يمكن أن تستمر طوال ساعات الليل ويتنشقها أبناء المناطق المحيطة حتى أثناء نومهم.
تأثيرات طويلة الأجل
إلى جانب الدمار في الحجر، أحدثت الحرب أثراً عميقاً في نفوس المواطنين اللبنانيين، وتزايدت حالات الإصابة بنوبات الخوف والهلع، ناهيك عن الآثار الصحية القصيرة والطويلة الأمد. ويشير الأستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور إسماعيل عباس إلى مفاقمة مشكلات مرضى الربو والتهاب الشعب الهوائية، أما على المستوى البعيد فيمكن أن نرصد ارتفاعاً في الإصابات بأمراض القلب والسرطان والأعصاب في لبنان بفعل التعرض المتكرر للغازات والمعادن الثقيلة كالرصاص والنيكل وغيرها التي تبنى منها الصواريخ. ويتعرض كذلك المسعفون والمواطنون لحالات التسمم الحاد بفعل استنشاق غازات القصف السامة، على غرار أول أكسيد الكربون الذي يؤدي إلى ضعف قدرة الدم في نقل الأوكسجين إلى الأعضاء، إضافة إلى ثاني أكسيد الكربون الناتج من احتراق المتفجرات. وينجم عن الانفجارات أكاسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت، وغيرها من المواد الناتجة من اشتعال الـ”تي أن تي” والديوكسين والفيوران، فكلها تؤدي على المدى البعيد إلى أضرار صحية وتتسبب في التغير المناخي إذا استمرت الحرب طويلاً.
وكذلك يحذر عباس من تلوث التربة في الجنوب بفعل المعادن الثقيلة، تحديداً مادة “الليد” السامة، مما يؤدي إلى تراجع خصوبة التربة، ناهيك عن حدوث تلوث كيماوي لمصادر المياه حال تسربها إلى الداخل، ولا يستبعد حصول “أمطار حمضية” بفعل انبعاث أكاسيد النيتروجين والكبريت التي تتفاعل مع الماء في الغلاف الجوي، وتكوّن أمطاراً مؤثرة في التربة والمياه والأبنية.
المصدر: اندبندنت عربية