الصحافة الروبوتية… عبور إلى مستوى مختلف من العمل الروتيني

تعد إمكانات صحافة التعلم الآلي لا حدود لها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالأخبار الفعلية على مدار الوقت مثل توقعات الطقس وتقارير المرور والنتائج السياسية والأحداث الرياضية، إلا أن الآلة بالتأكيد غير قادرة على صياغة قصة مميزة نابضة بالحيوية أو إجراء تحليل متعمق لموضوع ما.

يراهن كثر في المشهد الإعلامي اليوم على حقيقة ما تحدثه التكنولوجيا من إعادة تشكيل الصحافة بأنواعها وجوانبها المختلفة، سواء من ناحية ما يمكن أن تمثله الآلة كبديل للبشر أو معززة لقدراتهم ومهاراتهم من خلال ما تقدمه من تسهيلات وسرعة ودقة في عملية تقاطع مذهلة بين الحدس البشري والذكاء الآلي.

وفي حين يبدو وكأن استخدام الذكاء الاصطناعي أصبح اليوم جزءاً من أدوات الصناعة الصحافية، نجد منظمات إخبارية عدة، مثل “أسوشيتد برس” و”فوربس” و”نيويورك تايمز” و”لوس أنجلوس تايمز”، تتبنى اتجاه الصحافة الآلية وتشق غمار استثمار إمكاناتها اللامتناهية موظفة إياها في إنتاج بعض الأنواع من التقارير الإخبارية بغزارة وكفاءة عالية باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي، الأداة التي ستحمل عملية التفاعل بين الصحافة والآلة إلى مستوى مختلف تماماً.

أتمتة الإنتاج الإخباري

الغرض من مصطلح الصحافة الآلية أو الروبوتية أو التي يطلق عليها أيضاً الصحافة الخوارزمية، وصف أجزاء العمل الصحافي التي زحفت إليها التكنولوجيا الحديثة، إذ تخضع عملية إنتاج الأخبار برمتها للأتمتة وتستخدم الخوارزميات التي توفرها وتطورها شركات علوم البيانات والذكاء الاصطناعي لإنشاء المقالات أو التقارير الإخبارية.

ويبدأ الأمر كله بعملية جمع كمية كبيرة من البيانات وفهمها وإدخالها في عملية معالجة هيكلتها وتنظيمها وترتيبها وتحليلها من قبل الخوارزميات لصياغتها وتحويلها إلى مقالات إخبارية مميزة، وتعتمد هذه العملية بصورة كبيرة على مبادئ علم البيانات والبراعة في الترميز لجمع وتحليل البيانات وتحويلها إلى سرديات متماسكة.

وتستبدل في هذه المجالات الأدوار البشرية التقليدية بعمليات آلية، لتقوم الآلات بدور الصحافي البشري في جمع ونشر المعلومات مع مزايا إضافية أهمها السرعة وغزارة الإنتاج وحجم البيانات التي يمكن جمعها ومعالجتها وتحليلها، والأهم أنها لا تتعب ولا تبدي أي نوع من التذمر والشكوى والعاطفة الزائدة والحساسية ولا تعاني الاكتئاب (حتى الآن).

ومن هنا تدخل العمليات الآلية موضع الاستخدام في جميع جوانب الصحافة الكلاسيكية، التحقيق وإنتاج المحتوى والتوزيع، وتطبق في أربعة مجالات رئيسة هي إنتاج المحتوى الآلي واستخراج البيانات ونشر الأخبار وتحسين المحتوى.

الحقائق والإحصاءات

وتبرز قوة الصحافة الآلية في المقالات والقصص الإخبارية القائمة على الحقائق، إذ تحول البيانات المنظمة والموثوقة إلى محتوى سريع، ويمكن تخصيصه تبعاً لحاجات القارئ. وتستخدم خصوصاً في إنشاء التقارير المالية وملخصات الأرباح وتحليلات السوق، نظراً لأهمية عاملي السرعة والدقة في هذه المجالات، وهو ما توفره هذه الأنظمة بسبب قدرتها العالية على معالجة كميات ضخمة من البيانات المالية بسرعة ودقة، إضافة إلى مهارتها في تحليل وإصدار تقارير سريعة عن أرباح الشركات.

وكذلك تستخدم لإنتاج التقارير الرياضية وملخصات المباريات والتحليلات الإحصائية، إذ يمكن لهذه الأنظمة معالجة بيانات الأحداث الرياضية في الوقت الفعلي، ونقل التغطية والإحصاءات لحظة بلحظة، كما تستخدم بعض المؤسسات الإخبارية الأتمتة لتوليد تحديثات الأخبار المحلية، مثل تقارير المرور وملخصات الأحداث المجتمعية وتوليد تقارير جوية عن تحديثات الطقس والتنبؤات المعتمدة على البيانات، وإنشاء محتوى سريع وملخص لوسائل التواصل الاجتماعي وتخصيص المحتوى بناءً على تفضيلات المستخدمين وعادات القراءة.

وتمتد استخداماتها لتشكل إعداداً لتقارير الرعاية الصحية عبر معالجة بيانات الأبحاث الطبية، وإنشاء تقارير عن العقارات واتجاهات السوق وتحليلات سوق الإسكان، ولمعالجة وتحليل نتائج الانتخابات، وتوفير تحديثات في الوقت الفعلي حول نتائج التصويت، وترتيب المرشحين، وغيرها من المعلومات ذات الصلة.

وفي هذا السياق، يستخدم ما يقارب ثلث المحتوى الذي تنشره “بلومبيرغ نيوز” شكلاً من أشكال التكنولوجيا الآلية، إذ بإمكان النظام الذي تستخدمه الشركة “نظام سايبورغ” مساعدة المراسلين على إنتاج آلاف المقالات بخصوص تقارير أرباح الشركات كل ربع سنة، وبفضل دقته وعمله المستمر على مدار الساعة يساعد نظام “سايبورغ بلومبيرغ” في سباقها ضد “رويترز”، منافستها الرئيسة في مجال الصحافة المالية السريعة، كما يمنحها فرصة للقتال ضد لاعب أكثر حداثة في سباق المعلومات وهو صناديق التحوط، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم حقائق جديدة لعملائها، بحسب “نيويورك تايمز”.

نقاط القوة والضعف

وفي حين تعد إمكانات صحافة التعلم الآلي لا حدود لها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالأخبار الفعلية على مدار الوقت مثل توقعات الطقس وتقارير المرور والنتائج السياسية والأحداث الرياضية، تتركز إيجابيات الصحافة الآلية في أتمتة التقارير الروتينية وقوة التفاعل الفوري مع البيانات الفعلية وتوفير رؤية أسرع، إذ تبدو السرعة والكفاءة عاملين يميزان المقالات المكتوبة من قبل أدوات الذكاء الاصطناعي.

إلا أن الآلة بالتأكيد غير قادرة على صياغة قصة مميزة نابضة بالحيوية أو إجراء تحليل متعمق لموضوع ما، إذ تفتقر الروبوتات بشدة إلى التعبير عن المشاعر أو التفكير بموضوعية طالما يحدها قالب مسبق الصنع، فيمكن للروبوت وضع الحقائق في قالب محدد مسبقاً، الأمر الذي يوقعه في فخ النمطية، إضافة إلى احتياجه كمية بيانات كافية لالتقاط الأنماط والتعلم منها ومعرفه شكل الاستجابة الصحيحة ومن دون توفر هذه البيانات ستظل قدرته محدودة.

من جهة أخرى تواجه تقنيات الذكاء الاصطناعي صعوبة في فهم البيانات غير المنظمة، كما أنها لا تستطيع التمييز بين المدخلات الدقيقة وغير الدقيقة، وهذا يؤدي إلى مشكلات تتعلق بالأصالة، أما الخطر الأكبر فيكمن في انتشار الأخبار المزيفة، إذ لا تستطيع الآلة التعامل دائماً مع المعلومات غير الكاملة أو المواقف التي تكون فيها البيانات مفقودة أو اكتشاف العيوب التي تبدو واضحة للصحافي في قصة إخبارية ما، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى نشر رسائل خطأ وانتشار الأخبار المزيفة، على سبيل المثال، أعلن “روبوت” “كويك بوت” Quakebot  المتخصص في الزلازل، من طريق الخطأ عن زلزال أوقع وفيات عدة، في حين اتضح أن الزلزال قديم عمره نحو 92 سنة، والسبب خطأ بشري في البيانات المقدمة له، ولم ينجح الروبوت في اكتشافه بل بدأ على الفور في نشر الخبر.

التحرر من الروتين

وليس من المستغرب أن ينظر إلى هذا النوع المستجد من الصحافة على أنه تهديد لممارسات الصحافة التقليدية والجودة والدقة في الصناعة، والحقيقة أن القلق الحاصل اليوم أمام الصحافة الروبوتية يشبه إلى حد ما المخاوف التي ظهرت عند العاملين في الصحافة الورقية عند ظهور الصحف الإلكترونية، بينما ما حصل كان العكس تماماً إذ وسعت الصحافة الإلكترونية مجال العمل ووفرت فرص عمل متنوعة جداً.

وفي حين ينظر إلى الصحافة الآلية على أنها تهديد لصياغة الأخبار وجودتها وتهديد لسبل عيش الصحافيين البشر، يمكن النظر إليها أيضاً على أنها فرصة لتحرير الصحافيين من التقارير الروتينية، ومن هنا بدلاً من تمضية الوقت في القلق في شأن تأثير الروبوتات على فرص العمل، يمكن للصحافيين الاستفادة من الصحافة الآلية من خلال استخدامها كمساعد قوي للتركيز على القصص والبيانات الصحافية التي تعتمد على البيانات، فهي تقدم في حقيقة الأمر دعماً حقيقياً للصحافيين وتوفر جهودهم وتفرغهم لقضاء مزيد من الوقت في العمل على المهام المعقدة والتقارير المتعمقة والعمل الاستقصائي والموضوعي.

وبحسب “أسوشيتد إنسايتس”، فإن ما يقارب 20 في المئة من وقت يقضيه المراسل في تغطية الأخبار المالية يمكن توفيره بمساعدة الذكاء الاصطناعي لتحسين الدقة ومنح المراسلين مزيداً من الوقت للتركيز على المحتوى ورواية القصة وراء المقال بدلاً من التحقق من الحقائق والبحث.

وفي الواقع، تعمل الصحافة الآلية على تسريع المنظومة كاملة، فهي تساعد في إنتاج الأخبار العاجلة بسرعة والتعمق في البيانات الضخمة للحصول على رؤى، بل وحتى تخصيص الأخبار وفقاً لاهتمامات القراء، بينما يركز الصحافيون البشر على مواضيع أكثر إبداعاً.

وهذا يعني بصورة أو بأخرى خبراً ساراً للصحافيين المبدعين، وهنا تقول ليزا جيبس، مديرة الشراكات الإخبارية في وكالة “أسوشيتد برس”، إن عمل الصحافة إبداعي يتعلق بالفضول وحب الاستطلاع وسرد القصص، كما يرتبط بالبحث والتنقيب وتعريض الحكومات للمحاسبة وبالتفكير النقدي والحكم، وهذا هو المكان الذي نريد أن ينفق عليه صحافيونا طاقتهم.

المصدر : عربية Independent

شاهد أيضاً

وصلوا بدراجات نارية.. سرقة “كنز وطني” من متحف فرنسي في وضح النهار!

في وضح النهار، سُرق كنز من المجوهرات تقدر قيمته بملايين اليورو، في عملية سطو مسلح …