هل حرّض التجديف الذي بدأته “شيفرة دافنشي” على قراءة لاهوتية مسرحية أكثر سخرية؟
لم يكن الطبق الذي أثار شهية المثليين في العالم ونقمة المؤمنين المضادين لسرديتهم مفاجئاً في واقع الأمر في ذاته للمتابعين لحقل القراءات المشاكسة للوحة الأسطورية “العشاء الأخير”، منذ صدور الرواية المذهلة عنها وعن موضوعها “شيفرة دافنشي”، وإنما المفاجئ أن جاء التوظيف أو القراءة المسرحية الساخرة في منتدى رياضي عالمي يشاهده الملايين في أرجاء المعمورة.
إلا أن هذا أيضاً لا ينبغي أن يكون مفاجئاً في هذه الحقبة، فتيار الشذوذ صار تمدده مدفوعاً بقوى “اليسار” المهيمنة في الغرب، والذي لم تكن أرض أنواره باريس استثناء، كما كشفت عن ذلك نتائج انتخاباتها التشريعية الأخيرة التي سجل فيها “اليسار” رقماً صعباً عندما حل أولاً في السباق، حتى وإن كانت فرنسا في ذلك أقل صلفاً في دعايتها للتيار من الأميركيين والكنديين.
روائح السياسة
ومن المفارقات أن تيار الرئيس ماكرون الذي بدا أنه من وقف خلف التأويل المستفز للأسطورة، أو سمح به رشوة على الأرجح لحلفائه اليساريين الذين حفظوا له بعض ماء الوجه أمام مد اليمين المتغول، كان أكثر البكائين على تنامي رقعة انتشار اليمين المتطرف، ثم إذا به في أكبر تظاهرة عالمية من نوعها يمنحه أكبر الذرائع، ليس في فرنسا وحسب ولكن أيضاً في معظم أوروبا والغرب، على طريقة المثل العربي “أوسعتهم شتماً وفازوا بالإبل”.
لهذا لم يفت تيار “اليمين” توظيف المشهد في مثل قول عضو البرلمان الأوروبي عن فرنسا ماريو مارشال على هيئة اعتذار ماكر عبر حسابها في منصة “إكس” تتبرم من لوحة العرض، “على جميع المسيحيين في العالم الذين يشاهدون حفل باريس 2024 ويشعرون بالإهانة من هذه المحاكاة الساخرة للعشاء الأخير، اعلموا أن فرنسا ليست هي التي تتحدث بل أقلية يسارية حاضرة دوماً لأي استفزاز”.
وكانت مجموعة من الفنانين المتحولين جنسياً ظهروا في عرض فيديو مطول يجسد الشخصيات المرسومة في لوحة “العشاء الأخير” التي رسمها ليوناردو دافنشي أواسط القرن الـ 15، وقاموا بتجسيد شخصية السيد المسيح يرقص ويقفز ويزحف ويتمايل ويطلق إيماءات جنسية “لا تمت بأي صلة للدين، كما لا تمت للفن أو الموسيقى أو حتى لمناسبة الأولمبياد الرياضية التي يجب أن تمثل منذ تأسيسها رقي وحضارة الإنسانية”، بحسب الكنيسة الكاثوليكية.
صراع القوى من الغرب إلى الشرق
الحادثة على سخريتها وبساطتها تحيل إلى أزمة كبرى في العمق والدلالة، ولا سيما في ما يخص المنطقة العربية والإسلامية، إذ تشير إلى حجم تآكل قوى “الوسط” في الغرب من أطرافها لمصلحة “اليمين المتطرف” و”اليسار المتطرف” الذي بدا أنه أسرع نمواً من “اليمين”، قياساً إلى الوقت الذي استغرقه الجانبان قبل تشكيلهما قوة ثقافية وسياسية تبشر وتهدد، على نحو يذكر في منطقتنا بالمد الشيوعي خلال الستينيات، والإسلاموي والصحوي لاحقاً، قبل أن يشهد أبشع توظيف من جماعات الإسلام السياسي والإرهاب، من “الحرس الثوري” و”الإخوان المسلمين”، وحتى “القاعدة” وأخواتها بما فيها “داعش” التي وشمت ندوبها الدموية أجزاء واسعة من الكرة الأرضية، ناهيك عن رقعة العالم العربي والإسلامي.
ومع أن الإدارة الفرنسية اعتذرت للكنيسة من المشهد المريع الذي أمعن في السخرية من المسيح وصحبه الحواريين، إلا أنه يصعب تصديق أن الأمر كان صدفة، إذ لم يتوقع المنظمون أن يحدث الضجة التي أعقبته، فقد جربت فرنسا وجاراتها من قبل ما تعنيه الإساءة إلى الأنبياء من قبل تحت غطاء الفن وحرية التعبير، فما بالك بالمسيح عيسى بن مريم، وهو الذي لم يزل رمزاً مقدساً، مهما تراجع نفوذ الكنيسة قياساً إلى القرون الوسطى، وكان للعلمانية كلمتها الفصل في الدساتير والقوانين.
وطبقاً للسياق الزمني والسياسي فربما لم يشأ تيار دعاة المثلية أن يفوت المناسبة العالمية من دون أن يظهر قوته ويبرهن للعالم أنه صار واقعاً فرض نفسه، كما حاول أن يفعل في كل المناسبات الجماهيرية ولو كره المؤمنون، ولا ينبئك مثل بوتين وترمب وإيلون ماسك.
وهكذا يعلق الأكاديمي السعودي عبدالرحمن الحميضي بأن “تجسيد اللوحة بواسطة متحولين جنسياً مع التلميح للـ ‘بيدوفيليا’ يعكس الاتجاه نحو الانقضاض على الأديان كافة، وبخاصة المسيحية، واستبداله بمشهد جندري شهواني يرمز لانتصار إله اللذة على إله الألم، مما يدل على أن العالم متجه نحو مشهد ليبرالي عالمي جديد لا حد ولا سقف له، من تمجيد الشذوذ في نسق تبشيري عاصف”.
لكن في المقابل ينبه العارفون بمدينة الأنوار إلى أنها لم تعاقر غير كأسها ولم تعبر إلا عن نفسها، فهي هكذا بالنسبة إلى الكاتب سمير عطا الله الذي قال إنه يعرفها “منذ زمن سحيق، يحلم العالم بالمرور بها، فيما تتبرّم بنفسها. ذكية لدرجة أن لا أحد يُقلقها بشيء. موهوبة لدرجة أن لا شيء يُقنع مبدعيها. متمردة على كل شيء مألوف بحيث إن رئيسها الشاب متزوج في عاصمة المرأة من سيدة تكبُره كثيراً كثيراً، كما يبدو من العرض الخارق”.
أما المفاجئ أكثر فهو موقف المدير الفني للعرض توماس جولي الذي نفى أي علاقة لعرض ألعاب باريس باللوحة موضع الجدل ” فقال، “لن تجد فيّ أبداً أية رغبة في السخرية أو تشويه أي شيء، أردت أن أقوم باحتفال للإصلاح والمصالحة، وهذا أيضاً يؤكد من جديد قيم جمهوريتنا”.
ويعتبر المحلل السياسي اللبناني طارق وهبي أن العرض يشبه فرنسا الحالية المنقسمة بين “اليمين” و”اليسار” المتطرفين، “فقد رأينا أن السيدة مارين لوبان مثلاً قالت إنها لا تريد ظهور هذه الفنانة التي هي من أصول أفريقية والتي غنت ورقصت مع فرقة الحرس الجمهوري، وفي الوقت نفسه ‘اليسار’ يقول علينا الانفتاح على الآخرين، وعلينا أن نظهر أيضاً ثقافات الآخرين، لأنا لم نر أبداً في اللوحات التي وضعت في الافتتاح أية لوحة تعطي نوعاً مما تريده فرنسا من الآخرين”.
ورجح أن الأمر على خلاف الشائع لم يستهدف أي رسائل سياسية، “فقط كان هناك سرد للتاريخ الفرنسي، ولو أنه في البدء، يعني في الشعلة، كان زين الدين زيدان وجمال دبوز شخصيتين من المغرب العربي وفرنسيين أكثر، أصولهما من المغرب العربي، وحتى في النهاية عندما أضيئت الشعلة فأداؤها يعني امرأة ورجلاً فرنسيين، ولكن من الجزر الموجودة في الكاريبي يعني السود، فكان هناك نوع من محاولة إبراز التنوع”.
شيفرة دافنشي
ومع أن اللوحة التي أثارت الضجة من العرض تظهر كما لو أنها عالية الجرأة في مضمونها الذي يصنف من قبيل التجديف والنيل من المسيحية ورموزها، إلا أنها اختزلت ببراعة كبيرة رواية “شيفرة دافنشي” وفكرتها الأساس، وهي التي أعادت قراءة اللوحة الشهيرة وقدمتها في صورة هزت الحقل اللاهوتي برمته من المتخصصين والمهتمين بالعهد الجديد، حين قدمت قراءة مغايرة للسائد في الكنيسة وأظهرت النبي عيسى بصورة كما لو أنه إنسان طبيعي مثل بقية الأنبياء والمرسلين، تزوج وأنجب، ولم يكن ابن الله ولا الخطيئة كما يروج طرفا النقيض حوله، وذلك خلافاً للرواية المتداولة التي أريد لها أن تكون الحقيقة، وما سواها تجديف وامتهان لقدسية المسيح، كما تشير الرواية التي اعتبرت أن الطابع السائد الآن في الأفكار اللاهوتية المسيحية ليس أصيلاً، وإنما جرى استحداثه من جانب الحركة “الغنوصية” الباطنية التي هيمنت مفاهيمها في ما بعد بتأثير من قوى مختلفة.
مفاهيم الرواية التي أحدثت عاصفة فكرية وثقافية جاءت هي الأخرى مثل كثير من الظواهر المؤثرة في العصر الحديث من بلاد العام سام، فعلى رغم شيوع تلك المفاهيم عبر الأبحاث والمخطوطات على خجل فإنها لم تحظ قبل الروائي الأميركي دان براون بالزخم الذي فجرته الرواية الصادرة عام 2003 مترجمة إلى عشرات اللغات، هي والفيلم المقتبس عنها، لتفتح بعد ذلك باباً واسعاً لأية قراءة مهما شطت للآثار المسيحية بمفهومها العام، مادية أو غير مادية، ولا سيما لوحة “العشاء الأخير” للرسام الإيطالي ليوناردو دافينشي المتوفى عام 1519، والتي جاء التوظيف الفرنسي المزعوم لها مستفزاً، إلا أنه في بعده الرمزي كما يقول صاحب الفكرة، ليس إلا قراءة استعانت بالإرث الفرنسي في التعبير عن قضايا العالم المعاصر، المتنوع في أشخاصه وأفكاره أكثر من أي وقت مضى.
ماذا قال صاحب اللوحة؟
وقد نقلت “لو فيغاروا” الفرنسية اعتداده بأن “العشاء الأخير لم يكن مصدر إلهامي”، فالأمر كان واضحاً تماماً بالنسبة إليه، “فهذا ديونيسوس قادم على هذه الطاولة. إنه هناك، لماذا لأنه إله الاحتفال والخمر وأب سيكوانا، الإلهة المرتبطة بالنهر. كانت الفكرة بالأحرى إقامة مهرجان وثني كبير مرتبط بآلهة أوليمبوس، أي أوليمبوس الأولمبية”.
وفي بعد اللوحة الإباحي الذي أزعج متابعين، يلفت الناقد السعودي سعد البازعي إلى أن ترجمة العرض لبعض أفكار أسلاف الأنوار ليست بعيدة عما هو معهود من تلك الثقافة، فهي “مكون أساس من مكونات التنوير الفرنسي والأوروبي، فهو ليس فولتير وحرية تعبير وعقلانية فقط، وإنما هو أيضاً فردانية ونسبية أخلاقية وإباحية جنسية، ليس روسو وحسب، وإنما المركيز دو ساد أيضاً”.
ومع ما يحظى به المسيح من إجلال في المنطقة العربية بالنظر إلى صورته البهية في الديانة الإسلامية، فقد كان لافتاً أن أصواتاً تفاعلت مع الطبق المفاجئ في “العشاء الأخير” من باب “رب ضارة نافعة”، باعتبار امتهان شخص المسيح وإن كان مرفوضاً، إلا أنه قد يجعل معارضيه من “اليمين الغربي” يدركون مغزى غضب جيرانهم المسلمين من التبرم نحو الإساءة إلى نبيهم محمد عليه السلام، والذي صارت الإساءة إليه ولكتابه عنواناً ساخناً يتردد كثيراً في العواصم الغربية، في سياق ما صار يعرف بظاهرة “الإسلاموفوبيا” التي جندت لها منظمات ودول إسلامية تحالفات، بغية الحد من تطورها إلى كرة من نار وكراهية بين الثقافات.
ومهما يكن يبقى أن مائدة نهر السين الأخيرة، بغض النظر عن محتواها الفج، هي في جانب منها تأويل أحيا الرواية مجدداً واللوحة وأعاد لهما الجذوة، في خطوة تفسيرية جريئة للنصوص والفنون على الثقافات أن تستعد لمثيلاتها في عصر الذكاء الاصطناعي، فماذا أنتم فاعلون؟ فعلى رغم الجدل الدائر حول الحفل فإن مديره توماس جولي بتعبير الفرنسيين، “جلب أكثر من حجر إلى جبل المبنى الأولمبي” وربما العالمي.
المصدر : عربية Independent