المحتويات التي لا تضم أي شيء مفيد وأحياناً يكون الهدف منها إثارة الجدل وزيادة المشاهدات والتحول لتريند ويحقق بعض منها انتشاراً كبيراً تحولت لظاهرة مجتمعية، فلماذا تحقق كل هذا القدر من الانتشار وما انعكاسات ذلك على المجتمع وهل يشاهدها الناس كنوع من أنواع الترفيه أم أن الأمر يؤثر في حياتهم؟
محتوى لا نهاية له ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي كافة لأفراد عاديين يقدمون محتويات شخصية أو مثيرة للجدل، وفي أحيان كثيرة ليس لها قيمة على الإطلاق، ولكن بعضها يحقق مشاهدات عالية وينجح أصحابها في الحصول على آلاف وملايين المتابعين الذين تدريجاً تتحول مشاهدة مثل هذه المقاطع لعادة يومية تأخذ من وقتهم كثيراً.
فهذا ينشر يومياته مع أسرته وأطفاله، وهذه تنشر حكاياتها مع صديقاتها وجاراتها، وهؤلاء يتفاخرون بمشتريات بأسعار كبيرة، إلى جانب من ينشر مقاطع لتجهيز شقته قبل الزواج، ومن تنشر مراحل استعدادها للزفاف مع الماكيير والكوافير وفواصل من الرقص مع صديقاتها. فيديوهات لا نهاية لها تصادف مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مكثف يدفع بعضهم للاطلاع عليها ربما بسبب الفضول والرغبة في الاستكشاف في البداية ليتحولوا في بعض الأحيان لمتابعين.
المحتوى المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي له مواسم، فالصيف هو موسم لعرض ملابس البحر من البيكيني إلى البوركيني وإلى استعراض الشواطئ والفنادق الغالي منها والرخيص، وشهر رمضان يكون موسماً لفيديوهات العزائم والولائم وتنظيف المنازل قبل، العيد لتنتشر مقاطع فيديو مثل شاهدوا عزومتي لحماتي، ورأيكم في (outfit – ملابس) صلاة التراويح، والطريقة المثلى لغسيل الستائر والسجاد قبل العيد.
الحديث هنا عن مثل هذه النوعية من المحتوى، وليس عن الأشياء المفيدة التي لها وجود بالطبع على السوشيال ميديا، وتعتبر واحدة من مميزاته فهناك أشخاص يضيفون لمتابعيهم معلومات أو خبرات ذات قيمة في المجالات كافة، ومن المفترض أن تكون هذه من نقاط القوة للسوشيال ميديا التي يجب أن يحسن الناس استغلالها والاستفادة منها.
طبقاً للجهاز القومي لتنظيم الاتصالات في مصر فإنه في رمضان الماضي قام المصريون بصناعة 28 مليون فيديو قصير، وصنعوا 10 مليون ساعة محتوى بزيادة تقدر بـ41 في المئة عن رمضان 2023.
وفي إحصاء مماثل أصدره الجهاز عن استخدام المصريين للإنترنت في صيف عام 2022 فقد بلغ عدد صانعي مقاطع الفيديو القصيرة 18.4 مليون صانع فيديو قصير وبلغ عدد ساعات مقاطع الفيديو 4.4 مليون ساعة في زيادة تقدر بـ69 في المئة عن صيف 2021، وبلغ عدد الأشخاص الذين قاموا ببث فيديو مباشر على منصات التواصل الاجتماعي نحو 18.4 ألف صانع فيديو، وبلغ عدد ساعات البث المباشر 3.4 ألف ساعة يومياً بنسبة زيادة تصل لـ65 في المئة مقارنة بصيف 2021.
ظاهرة مجتمعية
المحتويات التي لا تضم أي شيء مفيد وأحياناً يكون الهدف منها إثارة الجدل وزيادة المشاهدات والتحول لتريند ويحقق بعض منها انتشاراً كبيراً تحولت لظاهرة مجتمعية، فلماذا تحقق كل هذا القدر من الانتشار وما انعكاسات ذلك على المجتمع، وهل يشاهدها الناس كنوع من أنواع الترفيه، أم أن الأمر يؤثر في حياتهم وأفكارهم وتوجهاتهم ونظرتهم إلى بعض القيم والمفاهيم، خصوصاً وأنه مع الانتشار الكبير لبعض مقدمي هذا المحتوى فإنهم يتجهون إلى عرض أرائهم في مواضيع معينة باعتبارهم مؤثرين ولهم متابعين، وفي أحيان أخرى تستغل بعض الشركات عدد المتابعين الضخم في إعلان منتجاتها عبر هذا الشخص باعتباره قادراً على الوصول لأعداد كبيرة من الجماهير، مما يجعله يحقق مكاسب أكبر على المستوى المادي ما يدفعه للاستمرار في تقديم محتواه.
في الوقت ذاته بعض القيم المجتمعية حدث لها نوع من التغيير حتى وإن كان قطاع كبير من الناس يستنكرها ففكرة أن يقوم شخص بتصوير مقاطع فيديو لزوجته وأولاده وعرضها على الملأ بشكل شبه يومي كانت منذ سنوات مستنكرة وغير مقبولة على الإطلاق، ولكنها حالياً تحقق مشاهدات عالية جداً وبعض أبطالها أصبحوا نجوماً لهم ملايين المتابعين.
أستاذ علم الاجتماع أمل رضوان تقول “بعض الناس حالياً أصبحت تسعي إلى أي شيء يحقق مشاهدات عالية وبالتالي ربحاً سريعاً من دون مجهود، فهم لا يعتمدون في ما يقدمون على علم أو خبرة أو مهارة معينة، وإنما يقدمون محتوى بلا محتوى، وبعضهم ينجح بالفعل في الحصول على ملايين المتابعين وتحقيق مكاسب مالية وشهرة، فيقلده غيره بغرض تحقيق المكاسب نفسها، فالتريند أصبح قائماً على أي شيء غريب وغير مألوف، حتى لو كان الأمر خارجاً عن كل القيم والأعراف مثل البحث عن الفضائح، ومن جانب الجمهور فالبعض قد يصادف هذا مرة ويشاهده بشكل عارض، وبعض منهم قد يرغب بعد يوم طويل في مشاهدة شيء لا يرهق ذهنه وقد يجد ضالته في مثل هذه النوعية من المحتوى”.
وتضيف “مقدمو هذه النوعية من المضامين التافهة، وإن كانوا يحققون مشاهدات وأموالاً كثيرة إلا أنهم في النهاية لا يحظون باحترام الجمهور، وهذا ما يجب أن يغرسه في الأطفال والأجيال الجديدة أنه يجب أن تقدم شيئاً ذا قيمة، وتكون مثل النماذج المشرفة التي تفتخر بها مصر وهم كثيرون، للأسف في العالم العربي كثير من القيم أصبحت تختفي في مقابل المادة وهذا خطر كبير على المجتمع بكامله”.
الجمهور والسوشيال ميديا
السجال والجدل أصبح عنواناً للسوشيال ميديا، فكل شيء أصبح له مؤيد ومعارض ومع وضد، سواء كانت مواضيع سياسية أو اجتماعية، أو حتى أموراً تافهة ليس لها قيمة، فالمتأمل لأي منشور في الصفحات أو المجموعات المنتشرة على السوشيال ميديا سيجد يرافقه غالباً معركة في التعليقات بين فريقين مؤيد ومعارض بداية من المنشورات التي تتناول أزمات كبري في البلاد مروراً بالمشكلات الاجتماعية والرياضية والفنية وانتهاء بمنشورات الطريقة المثلى لصناعة كعكة البرتقال أو الماسك الأفضل للبشرة. جدل وسجالات ومحاولات من بعضهم لاختراع تريند من لاشيء، فهذه الفتاة ترقص في حفلة تخرجها وتتحول لتريند وهذا يقدم نصائح لكيف تكون رجل أعمال في سبعة أيام، وهذا يقدم سلسلة من الفيديوهات عن رحلاته في أشهر الفنادق متعجباً كيف لا يذهب الناس إليها٬ فتحقيق أعلى نسب المشاهدة أصبح هدفاً بأية وسيلة.
تقول هالة عبدالله (49 سنة)، مدرسة لغة إنجليزية، “يصادفني على السوشيال ميديا محتويات أراها شديدة الغرابة ولكنها أصبحت ظاهرة بالفعل، فكثير منها تقدم أموراَ في غاية الخصوصية، فنجد من تعرض مشترياتها، ومن تحكي خلافاتها مع زوجها ومن تقدم يوميات مع ابنها الصغير، وكثير منهم بلا عمل فعلي، فهم يحققون أرباحاً طائلة من وراء هذا المحتوى ولكن لو اختفت وسائل التواصل الاجتماعي فلن يكون لهم أية قيمة وقتها، فنجاحهم مرتبط كلياً بها بعكس من يقدم مضموناً مرتبطاً بدراسته أو تخصصه وعمله الحقيقي، الأزمة أن الأجيال الجديدة تتأثر بشده بهذا الوضع وتراه وسيلة للشهرة والكسب السريع”.
بينما تقول مريم نبيل 22 سنة “السوشيال ميديا أصبحت مثل العالم الحقيقي، ولكنه افتراضي فنجد عليها كل شيء من المحتويات الجادة للتافهة، وعلى الشخص أن يختار ما يناسبه. هناك أشخاص يعتبرون أنفسهم محور الكون ويعرضون تفاصيل حياتهم كافة لزيادة المشاهدات، ولكن هذا غير مقبول. أحياناً أشاهد فيديوهات لهم، ولكني لا اعتقد أن الأمر له ضرر، وليس له فائدة، ولكنه أحد وسائل التسلية ليس أكثر”.
رأي الطب النفسي
ما الأبعاد النفسية لهؤلاء الأشخاص الذين يقدمون مثل هذه النوعية من مقاطع الفيديو التي يعد بعضها ليس له أية قيمة، أو يقدم محتويات شخصية أو تافهة ومثيرة للجدل، وهل يمكن أن يكون بعضهم يعاني اضطرابات نفسية ما لها دور في هذا الأمر.
استشاري الطب النفسي محمد حمودة يقول “هناك اضطراب يسمى اضطراب الشخصية الهستيرية، وهو متعلق بأن الشخص يكون محباً للظهور بأي شكل وبأية وسيلة، وبعض الأشخاص المقدمين لمثل هذه الفيديوهات بالقطع مصابين به، فهم يرغبون في أن يكونوا محط الأنظار بغض النظر عن أي شيء، ومن هنا نرى كثيراً من المحتويات التافهة وغير المنطقية. نوع آخر من الاضطرابات يسمى اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع، يكون هنا الشخص كل اهتمامه بنفسه وتحقيق النفع، وفي هذه الحالة المكاسب المادية بغض النظر عن كل شيء حتى لو تعارض الأمر مع أهداف المجتمع وقيمه. هناك اضطراب ثالث هو اضطراب الشخصية النرجسية، مثل الحالات التي تستغل أطفالها أو أفراد من أسرتها لتحقيق الفائدة والمشاهدات العالية “.
ويضيف “من الجانب الآخر بالنسبة إلى المشاهد أو المتلقي لمثل هذا النوع من المحتوى فإن بعضاً منهم يمكن أن يكون مصاباً باضطراب يدعى اضطراب التلصص، فهو الشخص ذاته الذي كان قديماً يقف في الشرفة للتلصص على الجيران أو يسعى إلى سماع أخبار الناس بطرق مختلفة، ولكن الوسيلة حالياً هي مراقبتهم على السوشيال ميدي،٬ فبعض من يقدم مثل هذه الفيديوهات يقدمها وكأنها مسلسل يتابع الناس حلقاته لمعرفة تطورات حياة هذه الأسرة، هذه النماذج تتسرب لعقول الناس، وتدريجاً بعد مرحلة من الرفض والاعتراض أصبحت تتقبل هذا المحتوى وتشاهده، بل وأيضاً يتجه بعضهم لتقليده باعتباره أصبح وسيلة لتحقيق مكاسب كبيرة من دون مجهود”.
المصدر : عربية Independent