“قصيدة الغناء” المنذور صوتها للعراقة، لم يُثنِها التّيهُ المتربّص بغناء الزّمن الحديث، عن الحفر عميقًا في الأرض الأصيلة، نافضةً عن ذهب كنوزها ترابًا يكاد يلتحق بالصّدأ. وهي النّوّارة في زمن الرّداءة، وحارسة الأصالة من الهجين وهجائن الفنّ والموسيقى والغناء.
لا يشبه ما تقدّمه جاهدة وهبه أيّ نمط سائد ومفتعل، ولم تتمكّن مغريات هذه الأنماط من استمالتها، بل واصلت الحفر والأرض معطاء. ولا يشبه ما تقدّمه سوى نهجها المصقول بثقافة وفكر ورؤية فنّية أصيلة وحداثيّة في آن، أهّلتها لأن تبقى متربّعةً منذ عقود على عرشٍ فنّي نسجتْ هويّته بمهارتها وثقافتها وتنوّعها وخصوصيّتها.
في “دوما”، عرفت وهبه كيف تحبس اللحظة الموسيقيّة في الأسماع والوجدان. فهي المتفرّدة والخبيرة بابتكار الفضاءات الملائمة لكلّ حدث. أمسية من ليالي “مهرجانات دوما” وسّعتها الدّيفا لعبور “ديفات” احتفاءً بهنّ كآلهات الأساطير.
“دوما”، القرية الشّمالية المتوّجة بالقرميد والتّراث وبنجوم لا تنام، ساكَنَها التّاريخ في مقطوعةٍ لحنيّة صغيرة تكاد تشبه الجغرافيا، فيها ينصهر الزّمان والمكان ليشكّلا أرجوحةً سُمّيت وطنًا، معلّقة بين سماء الجمال وأرض الإبداع. هناك، في تلك الجبال الدّهرية، تسلّلت جاهدة إلى الأماسي النّديّة لتبتكر دروبًا جديدة للعصافير، وفصلًا خامسًا للطبيعة، في مهرجانها الصّيفي هذا العام، الذي كلّله صوتٌ بتنا نفتقده في حمأة فنّ استهلاكي يجتاح الذّائقة الحديثة.
أمسيةٌ مختلفة، قدّمتها وهبه، في عرضٍ استثنائي، يذكّر بلبنان الحلم، ثقافةً وفنًّا وجمالًا ونقاء. فاستحضرت أيقونات العصر الذّهبي في ليلةٍ واحدة ساحرة بعنوان: “هنّ في مهبّ النّغم: من بياف إلى أم كلثوم”، رافقتها فيها الفرقة الموسيقيّة بقيادة مارون يمّين، لتعتلي المسرح افتتاحًا بأغنية كُتبت خصّيصًا لدوما من لحنها وكلمات الشّاعرة ماجدة داغر. وفي اتّصال للسّياق الموسيقي غنّت لفيروز وقصيدة “أعطني النّاي وغنّي” لجبران لحن نجيب حنكش، وإلى الارتجال الذي عُرفت به وهبه، قدّمت من شعر رابعة العدويّة ارتجاليّة عالية التمكّن والإحساس بصوفيّة الكلام.
لم تكتفِ وهبه بجمع تلك القامات الفنّية الموسيقيّة في ليلة غنائيّة فقط، (فيروز، إديث بياف،أسمهان، داليدا، صباح، وأم كلثوم) إنّما استحضرت معهنّ “الأكسسوارات” اللازمة، ليتحوّل المسرح معها مشهديّةً ملهمة من زمن تلك الأيقونات، لحنًا وغناءً ورقصًا وأداءً وعزفًا، يتغيّر مع كل أغنية المشهد برمّته، بدءًا بالملابس الخاصة المعلّقة على إطار خاص تستخدمها الفنّانة مباشرة على المسرح، مرورًاً بالانتقال السّلس بين الأنماط الموسيقيّة والغنائيّة، التي تتقنها وهبه باحتراف مشهود. وصولًا إلى المشهديّات المطعّمة بالعروض لفنانين شاركوها، كلٌّ في سياق مختلف، وذلك في لوحات مبهرة يرافقها أداء دراميّ للأغنيات، في ما يشبه السّفر إلى فضاءات سيّدات الغناء المحتفى بهنّ وعوالمهنّ الخاصة، في عرض فنّي فريد مبتكر من إعداد وهبه وتقديمها.
من المشهد الباريسي مع عازف الأكورديون على المقعد تحت قناديل الأرصفة في باريس، على إيقاع أغنيات إديث بياف التي أدّتها وهبه معرّبةً وبالفرنسيّة، إلى قصيدة “قل لي” لسعاد الصباح ولحن وهبه، استكمالاً مع بياف أيضًا مع مشهد السّاحر داني داوود الذي رافقها بأعمال الخفّة الطريفة في أثناء تأديتها، إلى الحضور الرّقيق لشقيقة الفنانة جانا وهبه (التي تولّت تنسيق الحفل ومتابعته) في أداء مشترك لإحدى قصائد أحلام مستغانمي، رحلةٌ نغميّة ممتعة وشائقة.
أما الرّقص فحظي بحصّة وافرة، مع الثنائي كارول حداد وعدنان نعمة على إيقاع أغنية “نجمة الصّبح” كلمات الشّاعر طلال حيدر ولحن وهبه، والرقص الفولكلوري التراثي مع فرقة “زين الليالي التّراثيّة” التي رافقتها في أغنية “خلخال الزّمان” من كلمات الشاعر طلال حيدر وألحانها، تخللها موّال مهدى لدوما من شعر جرمانوس جرمانوس. إلى الرّاقصة إيليانا سطّوف، مفاجأة الأمسية، وهي تتدلّى عن جانب المسرح من رافعة تحملها، لترقص على ما يشبه المنديل الأحمر الطويل يحرّك تموّجات جسدها صوت وهبه.
في الأمسية المتنوّعة كحقل من الأزاهير، أكملت الفنانة هذا التنوّع بالغناء بلغات متعددة، بالإضافة إلى الفرنسية مع بياف، مرنّمةً بالإسبانيّة أغنية Gracias a la vida للمغنية الإسبانية مرسيدس سوسا، أو “شكرًا للحياة” تعريب رشيدة محمدي وآية الضّيقة. ولم تغب الفارسيّة عن هذه الفسيفساء الموسيقية، فغنّت من شعر عمر الخيام قصيدة “ضوء القمر” بتصرّف، بالفارسيّة والعربية.
باستثناء الأعمال الكلاسيكية التي قدمتها وهبه، كل ما غنّته من ريبيرتوارها الخاص هو من ألحانها، كأغنيتها الشهيرة التي أصبحت أيقونة أعمالها “لا تمضِ إلى الغابة” شعر الأديب الألماني غونتر غراس الحائز جائزة نوبل.
أعاد الجمهور الفنانة مرّات متتالية إلى مسرح المهرجان مطالبين بالاستمرار في الغناء، ولا سيّما عند أدائها أغنية “إنت عمري” لكوكب الشرق (كلمات أحمد شفيق كامل ولحن محمد عبد الوهاب)، وفي أغنيات أخرى، في ما يشبه عدم الارتواء من أداء وهبه وصوتها، ما يعكس تعطّش الجمهور إلى الفنّ الأصيل الذي تمثّله جاهدة وهبه في كل تجلّياته.