وصل زميلي إلى مقر عمله جائعاً، فسألني عن مطعم يقدم أطباقاً يومية “حرزانة”: تكون إحدى مكوناتها الأرز والدجاج أو اللحمة. بحثت في تطبيق “زوماتو” عما يؤكل، فوقع الخيار على أحد المطاعم البيروتية العريقة في الطبخ. مطعم ذائع الصيت. وهو توسع في زمن الوفرة ليفتتح فروعاً في أكثر من كلية في الجامعة اللبنانية. وكان مقصد متبضعي الكتب في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب. وكان أحد أفضل خيارات العائلات والمؤسسات في تقديم ما يعرف بخدمة “الكاترينغ”: الولائم الكبرى والعزائم على اختلاف أنواعها ومنظميها.
وبعد أخذ ورد وبحث، في قائمة الخيارات التي يعرضها المطعم، وهي باتت اليوم قليلة قياساً بزمن الوفرة، طلبت له وجبة “كبسة الدجاج” التي ترسل ساخنة تشتهيها العين قبل الفم: فخذ أو صدر دجاج مقمّر مع طبق من الأرز.
وبعد نحو ربع ساعة اتصلت عاملة الهاتف في المطعم، تسأل ما إذا كانت لدينا إمكانية تسخين الطبق، وما إذا كنا نقبل إرساله بارداً. واعتذرت، عازيةً السبب إلى انقطاع التيار الكهربائي الخاص بشركة كهرباء لبنان، والتقنين المتكرر لمولدات الكهرباء. وكان أن رفض زميلي العرض، فاعتذرتُ من الموظفة وألغيت الطلب.
بعد دقائق رن الهاتف وقالت الموظفة إياها إن أحدهم يريد التحدث إليّ بخصوص الطلبية التي ألغيتها. عرّف الشخص عن نفسه بأنه صاحب المطعم، وجدد اعتذاره أكثر من مرة راجياً مني قبول الطبق مجاناً، على أن أتكفل بتسخينه وحسب. وعاد وأكد أن الظروف قاهرة، ولا علاقة للمطعم بها، بل متعلقة بالتيار الكهربائي اللعين. ولأنه لا يريد فقدان زبائنه، وهو ما زال يجهد في تقديم طبقه بالمواصفات عينها، التي كانت قبل زمن العوز والفاقة. ثم كرر رجاءه بأن أقبل الطبق مجاناً.
نقلت له تفهمي لهذا الواقع المرير، ومعاناة اللبنانيين من المصاب عينه. وأكدت له أن لا ذنب له، وأنني أصدق كل كلمة قالها. وتمتمت بعض الكلمات لتطييب خاطره، قائلاً له إن ما حصل لا يستدعي إلا الأسى على واقعنا الحالي، وإن سمعة مطعمه محفوظة.
ارتاح الرجل لهذا الكلام، وكاشفني بمعاناته قائلاً: منذ الصباح وحتى الساعة تلقينا 16 طلبية، ثم عزف طالبوها عن إيصالها لهم للسبب عينه. أي لعدم قدرتنا على تسخين الطعام لتقديم وجبة ساخنة. لذا ضقت ذرعاً واتصلت بك. فقد بت مذعوراً منذ الصباح. وتكرر هذا الأمر في الأيام الفائتة.
وأضاف شاكياً: الوضع لم يعد يطاق. ننتظر رحمة المولدات لتسخين الأطباق. مولد الكهرباء الخاص بنا فارغ من المازوت. أضف إلى ذلك أن لدينا أكثر من 16 دراجة نارية لتوصيل الطلبات، خزاناتها كلها فارغة من البنزين. أركض من محطة إلى أخرى لشراء غالون من هنا أو هناك، وكلها تجارة سوق سوداء. عملنا لعقود كي نصبح من أشهر المطاعم ونقدم أفضل الخدمات للزبائن. لكن أنظر إلى ما أوصلتنا إليه هذه السلطة اللعينة. بتنا نستجدي الزبائن قبول طبق مجاني، لأننا غير قادرين على تسخينها. فماذا يريدون منا بعد؟ بيتي دمره انفجار المرفأ.. ولم يبق أمامي إلا شراء غالون بنزين لأشعل به المطعم وأرتاح من هذا البلاء.