“عندنا في بلادنا، عطر مفقود. اكتشف سنة ١٤٨٠. عطر تتلاقى فيه شجرة الحياة، مع الذهب”. فكرة طالما رددتها جدة سارية على مسمعها، فلم تغب عن ذاكرتها يوم هاجرت بلدها لبنان.
في غربتها، افتقدت سارية هويتها. مهما طال الزمن، والبعاد، يبقى الحنين للوطن، والانتماء إليه شغف المهاجر. عادت سارية تبحث عن هوية، ورواية جدتها عن العطر المفقود مسار بحثها. تساءلت بينها وبين نفسها في بلاد الاغتراب: “كيف أبقى بلا هوية بينما شعوب الأرض منذ بدء التاريخ، تنجذب إلى موطني، ساعية ل”شجرة الحياة”، ومنها أريج عطرها!”
طردت سارية الغربة، وعادت إلى موطنها، وانضمت الى فريق يبحث عن العطر، ويبحث فيه انطلاقا منخان الصابون في “قرية بدر حسون البيئية”. اتجهت مع الفريق نحو الكهوف، والجبال، والأودية، تتتبع أريج عطر منبعث من الجبال. عثر الفريق على لوحة. هي شجرة الحياة السومرية، الممزوجة بالحب، والخصب، وعبادة الإله. تلمسها، فتحركت بيده. كانت تخبيء ما ترمز إليه، أي عطر لبنان في قنينة صغيرة، من شجرة الحياة. أدرك الفريق عبر اللوحة أن الشجرة التي تعطي هذا العطر ليست بعيدة، إنها في متناول كل باحث عن الحب، والحق، والثبات.
لم يكن العثور على الشجرة المحفورة على اللوح السومري صعب المنال. في كل تلة وجبل لبناني، “شجرة الحياة” التي عرفت منذ ما قبل التاريخ ب”الأرز”. شجرة شغفت حضارات العالم بها، فبنى منها سليمان الحكيم هيكله، والفراعنة قصورهم، والأشوريون والأكاديون مدنهم، والرومان حضارتهم، وفي العصر الحديث، اعتمدها الانكليز لبناء سكة الحديد التي ربطت حضارات العالم بين الشرق والغرب، ورغم كل ذلك التقطيع لها، ظلت صامدة، تقارع الأعاصير، وتتحدى الزمن رمزا للصمود.
ربط الفريق بين الأريج الذي عثر عليه تحت اللوحة، وما ينتشر في كل مكان من عبق البخور، والأصماغ فأدرك أن نبع العطر هي الأرزة، شجرة الحياة الخالدة. تذكر كيف لم يخلُ كتاب تاريخ، ولا كتاب مقدس من ذكر العطر، وشجرة الحياة، الأرز.
اما سارية فقد أدركت أنها استعادت هويتها المفقودة التي تربط بين الأرض، والسماء، والانسان والشجرة، في كل مكان من موطنها.
“يرمز عطر شجرة الحياة إلى هويتنا وانتمائنا، وترابط شعبنا بكل فئاته. هذا ما كنا نسعى إليه لاستعادة هذا العطر المفقود، وإحيائه في ظروف صعبة، ملؤها التحدي”، يقول مؤسس القرية الدكتور بدر حسون، الذي قاد الفريق الكبير الذي سعى للبحث عن العطر، وجذوره، وحكاياته، ومصادره، وتجميعها، وتصنيعها، وفي هذا البحث المضني، لكن بحماس الشباب، وشغف كل وطني، يقول حسون، “كنا نناضل لاستعادة عطر حياتنا الوطنية، ورمزيتها، وفي خضم نضالنا شعرنا بأننا أحدثنا تغييرا نادرا، فاندمج في سعينا المشترك، أشخاص، وأناس من مختلف مناطق لبنان، وفئاته، وكان مسارا طويلا وشاقا، انتهى لاستعادة عطر الحياة، من شجرة الحياة، التي جمعت لبنانيين من مختلف المناطق والمشارب”.
قدم الفريق المنتمي ل”قرية بدر حسون البيئية” العطر المستعاد في استعراض فني غلب عليه فن التشكيل، والمسرح، ليضفي على مناسبة إطلاقه من جديد، روحية الابتكار التي تميز لبنان بها، وبرع بها لبنانيون من مختلف المشارب، وفي لبنان وكل أنحاء العالم.
عرض فيلم توثيقي يروي طريقة اكتشاف العطر، وشجرة الحياة، ثم العناصر التي استخدمت في الاكتشاف، والتصنيع، والتوضيب، فرواية العطر، استعرضها حسون، متحدثا بانفراد، وتباعد، لكل فرد من الأفراد المائة الذين جرى اختيارهم، عن اكتشاف العطر منذ ١٤٨٠، ففقدانه، وصولا إلى إحيائه في قريته البيئية، والأبحاث التي جرت حوله، والاختبارات التي أقيمت على مراحل وسنوات طويلة، والاستعانة بخبرات عملانية، وأكاديمية، قبل التوصل إلى إدراكه من جديد.
قدمت رواية العطر، وأهميته إن في الحياة الشخصية للانسان، أم في ما يجمعه من أبعاد وطنية، لمائة شخص جرى اختيارهم بدقة، وعبرهم يمكن إيصال هوية لبنان التاريخية، والدهرية إلى مختلف أنحاء العالم. هكذا يختم حسون كلامه، مؤكدا أن “الخالدين هم من يصنعون الحياة، كشجرة الحياة، ومن يصنعون الخلود كعطرها المذهب”.