حين كانت لورا دوميني تتابع دراساتها لنيل شهادة الدكتوراه في الفيزياء بجامعة ستانفورد، ركّزت بحوثها على النيوترينوات، وهي جسيمات أولية بالغة الضآلة حتى في نظر الفيزيائيين، وقد تبدو لعامة الناس وكأنها من نسج الخيال ، تكاد هذه الجسيمات تفتقر لأي كتلة، وهي محايدة كهربائياً، ما يسمح لها باختراق أي مادة كما لو كان قوامها الهواء. في هذه اللحظة تحديداً، تعبر تريليونات من هذه “الجسيمات الشبحية” جسدك من دون أن تشعر بها، مواصلة رحلات بدأ كثير منها بعد ثانية واحدة فقط من الانفجار العظيم.
حتى أجهزة الرصد المستخدمة لاكتشاف هذه النيوترينوات مدهشة أيضاً. فهي مصممة على شكل حجرات كهفية في أعماق الأرض، مملوءة بالماء الثقيل أو الآرغون السائل، تغطيها مجسّات ضوئية فائقة الحساسية أو شبكات دقيقة من الأسلاك ، بين حين وآخر، وبفضل ما يُعرف بـ”القوة الضعيفة”، يتفاعل أحد النيوترينوات مع جسيم دون ذري داخل هذه الحجرات، ما يتيح للأدوات العلمية رصده. وقد عملت دوميني على تطوير خوارزمية تعلّم آلي قادرة على التعرّف إلى هذه التفاعلات، ما يساعد الفيزيائيين على مواصلة رسم صورة أوضح للنيوترينو، وسبر أغوار هذا الكون العجيب من خلاله.
نالت دوميني شهادة الدكتوراه في 2023، لكن بخلاف زملائها الذين التحقوا ببرامج أبحاث فيزياء فلكية تقليدية أو شركات تقنية أو شركات مالية تستند إلى الخوارزميات، اختارت الانضمام إلى برنامج زمالة ما بعد مرحلة الدكتوراه في كامبريدج، بولاية ماساتشوستس، ضمن “مركز هارفرد وسميثسونيان للفيزياء الفلكية”، وبالتحديد مشروعه “غاليليو”، الذي يعمل على تطوير نوع مختلف من أجهزة الرصد.
البحث عن الأجسام الطائرة المجهولة
على رقعة من الإسفلت في قلب غابة تبعد نحو نصف ساعة عن مدينة بوسطن، تنتشر مجموعة من الأجهزة التابعة لمشروع “غاليليو”، تتضمّن مجسّات صوتية وآلة لتحليل طيف الترددات الراديوية وعدّاداً للجسيمات المشحونة ومحطة رصد جوي مزوّدة بجهاز قياس للمجال المغناطيسي، إلى جانب عدد من الكاميرات، بينها ثماني كاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء، موضوعة داخل قبة قطرها نصف متر تبدو أشبه برأس الروبوت (R2-D2) من سلسلة أفلام “حرب النجوم”.
قد لا تبدو هذه المجموعة من الأجهزة ملفتة، لكنها موجهة نحو السماء في مهمة لرصد ما يُعرف ضمن دائرة ضيقة من الباحثين بـ”الظواهر الشاذة غير المُعرّفة” (UAP)، أو ما يُطلق عليه معظمنا اسم “الأجسام الطائرة المجهولة” (UFO).
تبدي دوميني وزملاؤها انفتاحاً على جميع التفسيرات المحتملة للظواهر الشاذة التي قد يرصدونها، بما في ذلك احتمال أن تكون مؤشرات على وجود حياة ذكية خارج كوكب الأرض، لا في مجرّة بعيدة، بل في المجال الجوي للأرض نفسها ، وانطلاقاً من تصميم فريق “غاليليو” على إخضاع هذا المسعى غير التقليدي لأعلى معايير النهج العلمي، التزم بتحليل كميات هائلة من البيانات على مدار الساعة، وهي مهمة ما كانت لتتحقّق لولا التقدّم الأخير في تقنيات الذكاء الاصطناعي.
قالت دوميني: “هذه الطريقة الوحيدة لفك هذا اللغز”.

تزامن توفّر هذه الأدوات مع تحوّل ثقافي تلا نشر وزارة الدفاع الأميركية سيلاً من الوثائق حول أبحاثها في مجال الأجسام الطائرة المجهولة. برغم أن عدد الأكاديميين المحترفين المنخرطين في البحث عن كائنات فضائية، مثل دوميني، ما يزال محدوداً، لكنه إثبات على أن هذا النوع من البحوث لم يعد يقتصر على بضعة أشخاص هامشيين.
لقد بدأت برامج مشابهة لبرنامج جامعة هارفرد تنشأ في عدد آخر من المؤسسات التعليمية، مثل كلية ويلسلي، وجامعة فورتسبورغ الألمانية، ومعهد الشمال للفيزياء النظرية، إلى جانب البنتاغون نفسه ، يشرف على هذه البرامج في الغالب نخبة باحثين من أصحاب السير الذاتية المرموقة، على غرار دوميني، إلا أن الخوارزميات أصبحت اليوم هي الأخرى شريكاً فعّالاً في البحوث.
أتاحت التطورات المتسارعة في برمجيات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب الخوادم والأجهزة المتقدّمة اللازمة لتشغيلها، معالجة كميات ضخمة من البيانات فورياً ومن مصادر متعددة، بما فيها الكاميرات وغيرها من الأجهزة الميدانية. حتى أن هذه الأنظمة تخطت تدريبها البشري، وبدأت تعلّم نفسها كيفية رصد أنواع جديدة كلياً من الأجسام في السماء.
هل نحن وحدنا؟
تطرق عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل إنريكو فيرمي إلى لغز وجود حياة خارج الأرض بسؤال بسيط طرحه في 1950: “أين هم؟” فطالما الكون بهذا الاتساع ومليء بالكواكب الشبيهة بالأرض، لماذا لم نعثر حتى الآن على دليل يؤكّد أننا لسنا وحدنا؟ ، في محاولة للإجابة على هذا السؤال، يستخدم علماء الفلك أجهزة مطياف لرصد كواكب تبعد سنوات ضوئية، بحثاً عن بصمات كيميائية في أغلفتها الجوية تُشبه تلك الموجودة في الغلاف الجوي للأرض، وهي مؤشرات قد تدلّ على وجود محيطات تعجّ بكائنات بدائية شبيهة بالطحالب. وقد أفادت دراسة حديثة بأنها رصدت بالفعل إشارات من هذا النوع.
لكن البحث عن أدلة حول كائنات فضائية ترسل تقنيات متقدّمة إلى كوكبنا أمر مختلف تماماً. فلطالما ارتبط هذا النوع من الحديث بصور ضبابية وشهادات غامضة عن لقاءات مع مخلوقات شبيهة بالبشر تغمرها أضواء ساطعة، وغالباً ما شابه الخداع والانجراف نحو الماورائيات ، إلا أن النظرة إلى دراسة “الأجسام الطائرة المجهولة” تغيّرت يوم 16 ديسمبر 2017، عندما كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن وزارة الدفاع الأميركية كانت تجري تحقيقات سرّية في هذه الظواهر. وتضمن التقرير المنشور على موقع الصحيفة مقاطع مصورة التقطتها طائرات مقاتلة تابعة للبحرية الأميركية، تظهر أجساماً بيضوية الشكل تحلّق بطريقة تتحدى قوانين الفيزياء.
وقد دفع كشف هذه المعلومات بعد عقود من إنكار الحكومة الأميركية اهتمامها بالموضوع، الكونغرس إلى إلزام وزارة الدفاع ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية بإعداد تقرير سنوي علني يُفصّل أنشطتهما في هذا المجال ، كما ألزم الكونغرس وزارة الدفاع بإنشاء برنامج جديد أكثر انفتاحاً للبحث في “الظواهر الشاذة غير المُعرّفة”، أُطلق عليه اسم “مكتب حلّ الظواهر الغريبة في جميع المجالات” (AARO).
تولّى إدارة المكتب في بدايته شون كيركباتريك، الفيزيائي المتخصّص في علم المواد والمسؤول المخضرم في مجالي الدفاع والاستخبارات، الذي أقرّ بحجم التحديات الثقافية المحيطة بهذا الملف ، قال كيركباتريك: “طالما أن النقاش حول الحياة خارج الأرض يتناول أطرافاً نائية من المجرة أو الكون، يُنظر إليه كمسألة علمية. لكن كلما اقترب الحديث من الأرض، عند حدود المريخ مثلاً، يبدأ باكتساب طابع تآمري. وبمجرّد عبور طبقة الستراتوسفير، يخرج الأمر عن السيطرة تماماً”.
شغف بالفضاء منذ الصغر
بدأ شغف دوميني بالحياة الذكية خارج كوكب الأرض منذ نعومة أظافرها. فقد نشأت في شقة صغيرة تقع في ضاحية راقية في غرب باريس، في كنف والد فيتنامي هاجر في سن المراهقة وعلّم نفسه ليصبح مستشاراً في تقنية المعلومات، وأم فرنسية شغوفة باللغات، كانت تعمل موظفة استقبال في أحد فنادق باريس قبل أن تُنجب دوميني وشقيقيها.
كانت دوميني قارئة نهمة منذ الصغر ومولعة بتعلّم اللغات. لم تكتفِ بالفرنسية والإنكليزية، بل درست أيضاً الألمانية واليابانية، بل وتعلّمت السواحيلية. ومنذ ذلك الحين، أضافت إلى رصيدها لغات أخرى بدرجات متفاوتة من الإتقان، منها لغة والدها الفيتنامية، ولغة توي الأفريقية، والشيروكية، إضافة إلى لغة يوبيك الخاصة بسكان الإسكيمو المهددة بالاندثار ، قالت: “كنت واثقة من أنني سأتمكّن يوماً ما من التحدث بمعظم لغات العالم”.
لكنها لم تهتم بالتحدّث بطلاقة، بقدر ما كانت تركز على تفكيك البُنى النحوية لكل لغة، التي بدت لها كسلسلة أحاجي. ومع بلوغها المرحلة الثانوية، متجاوزة صفين، كانت قد علّمت نفسها عدداً من لغات البرمجة، إلى جانب مفاهيم متقدّمة في الفيزياء.

كان لكتب جاك فاليه مكانة خاصة في قلب دوميني. فالفلكي الفرنسي يُعرف في وادي السليكون بأنه من الروّاد الذين مهدوا للإنترنت، لكنه اكتسب شهرته الأوسع من مسيرته الموازية كرحالة يحقق في مشاهدات الأجسام الطائرة المجهولة حول العالم. حتى أن الشخصية التي جسّدها فرانسوا تروفو في فيلم (Close Encounters of the Third Kind) استُلهمت من فاليه.
انكبت دوميني على قراءة كتبه، لا سيما كتابه (Passport to Magonia)، الذي استعرض فيه أوجه الشبه بين الروايات الحديثة عن لقاءات مع كائنات فضائية والجوانب الخارقة للطبيعة في الأساطير والفولكلور. وكان والداها يشاركانها هذا الشغف، حتى أن والدها جهّز حاسوب العائلة للمشاركة في مشروع (SETI@home)، وهو مبادرة عالمية للحوسبة التشاركية تهدف إلى تحليل بيانات التلسكوبات الراديوية بحثاً عن رسائل محتملة من أعماق الفضاء.
كانت دوميني على قناعة بأن الأسئلة التي طرحها جاك فاليه تمثّل “الفجوة الأوسع في فهمنا للحقيقة”، وأن الفيزياء الفلكية هي السبيل الأنسب للبحث عن الأجوبة. لكنها، ومع تقدّمها في مسيرتها الأكاديمية، بدءاً من مدرسة البوليتكنيك الفرنسية المرموقة وصولاً إلى الدراسات العليا في جامعة ستانفورد، حيث ركّزت على فيزياء الجسيمات، بدأت تراودها الشكوك في قدرتها على تسخير خبرتها العلمية المتنامية في خدمة هذا الشغف.

برنامج بحثي جدّي
في مطلع 2022، كانت دوميني على بُعد عام واحد من نيل شهادة الدكتوراه، وكانت تخطّط لمغادرة الوسط الأكاديمي بعد التخرّج. فكرت بالعمل في شركة ناشئة تعنى بتغيّر المناخ، أو تطوير أدوات ذكاء اصطناعي لحماية اللغات المهددة بالاندثار، أو حتى أخذ إجازة لعام كامل لتتعلّم حرفة النجارة ، لكن في أبريل، وقعت على مقال يتناول “مشروع غاليليو” ومؤسّسه آفي لويب، عالم الفيزياء النظرية والأستاذ في جامعة هارفرد الذي شغل سابقاً منصب رئيس قسم الفلك فيها، وذاع صيته بفضل أفكاره الجريئة حول الثقوب السوداء والانفجار العظيم وبدايات تشكّل النجوم.
اليوم، يخوض لويب فصلاً جديداً في مسيرته المهنية. في 2018، نشر مع باحث شاب ورقة علمية اقترحا فيها أن “أومواموا”، وهو جرم فضائي غريب الشكل حيّر علماء الفلك بمساره عبر نظامنا الشمسي، قد يكون في الواقع مسباراً فضائياً ينتمي إلى كائنات من خارج كوكب الأرض. هذا الطرح الجريء الذي توسّع فيه لاحقاً في كتابه (Extraterrestrial: The First Sign of Intelligent Life Beyond Earth)، أكسبه شهرة واسعة وفتح له أبواب الحوار مع عدد من الأثرياء الذين يشاركونه شغفه بهذا المجال. وبتمويل منهم، أطلق مشروع “غاليليو” في 2021.
في 2023، قاد لويب بعثة إلى قاع البحر قرب بابوا غينيا الجديدة، بحثاً عن ما رجّح علناً أنه بقايا مسبار فضائي آخر احترق عند دخوله الغلاف الجوي للأرض. وقد رافقه فريق تصوير وثّق المهمة في سلسلة تدوينات يومية على منصة (Medium)، إلى جانب مقابلات صحفية متعدّدة. قال لويب في مقابلة بمنزله في ليكسينغتون بولاية ماساتشوستس: “الكون مكان غريب جداً… لا يمكنك أن تكون دوغمائياً عندما يكون معظم ما تتحدث عنه غير مفهوم أصلاً”.
لكن لويب نفسه شخصية مثيرة للجدل في أوساط الفيزيائيين الفلكيين، إذ يرى كثيرون أن اندفاعه نحو طرح فرضيات علنية عن تقنية فضائية غالباً ما يصاحب تجاهله المتعمّد للتفسيرات الأبسط والأقل إثارة، كأن تكون تلك الأجسام مجرد مذنبات أو نيازك عادية.
لكن ما جذب دوميني إلى المشروع كان امتلاكه التمويل والموارد اللازمة لإجراء أبحاث علمية جادة حول الظواهر الشاذة غير المُعرّفة. وقد شد اهتمامها المرصد الذي أنشئ لهذا الغرض. إذ لا حاجة للإيمان بوجود مسابير فضائية لتقدير أهمية ذلك. فاكتشاف شيء سيكون حدثاً استثنائياً، بينما عدم العثور على شيء سيضع الأمور في نصابها. هكذا يعمل العلم وتقدّمت دوميني بطلب للعمل باحثة ما بعد الدكتوراه، وبعد أسبوع ونصف، تلقّت اتصالاً من لويب يعرِض عليها الانضمام إلى الفريق.

حين وصلت دوميني إلى كامبريدج في أبريل 2023، التقت ريتشارد كلويت، أول باحث ما بعد الدكتوراه انضم إلى مشروع “غاليليو” بإشراف لويب. ومنذ ذلك الحين، يعملان جنباً إلى جنب. كما حالها، كان كلويت أول من نال شهادة جامعية في عائلته، لكن طريقه إليها كانت ملتويةً.
نشأ كلويت في جنوب أفريقيا متنقلاً بين ضواحي كيب تاون. كان والده يعمل مدير متجر وأمه محاسبة. وقد أمضى طفولته يصنع أجهزة راديو وملفات تسلا وكرات بلازما وبنادق الموجات الدقيقة وغيرها من الأدوات الإلكترونية. انتقل إلى إنجلترا في 2004 في عامه العشرين، وعمل نادلاً لخمس سنوات قبل أن يلتحق بجامعة وستمنستر لدراسة علوم الحاسوب والهندسة. لم يقرر متابعة الدكتوراه إلا بإلحاح من زوجته، وهي عالمة أيضاً. وقبل انضمامه إلى “غاليليو”، عمل باحثاً في مرحلة ما بعد الدكتوراه، متخصصاً بعلم البيانات في جامعة كامبريدج.

اعتماد على النماذج البرمجية
لطالما راود كلويت فضول تجاه الكائنات الفضائية، لكنه ينظر بعين الريبة إلى كثير ممّا يُقدَّم كأبحاث في هذا المجال. قال: “يُتداول كثير من الهراء. في كل مرة تُنشر معلومات جديدة، تكتشف أنه ليس لها أي أساس من الصحة، وأن هناك من يسعى لتحقيق مكاسب مادية”.
حتى البحوث الجادة في مجال الظواهر الشاذة غير المُعرّفة تبقى محدودة من حيث حجم البيانات المتاحة. فالباحثون في هذا الحقل، مثل جاك فاليه، أشبه بمحققين منهم بعلماء، إذ يتعاملون مع روايات مجزأة لشهود غالباً ما يكونون أنفسهم في حيرة ممّا رأوا ، يطمح مرصد “مشروع غاليليو” إلى إصلاح ذلك عبر توسيع قاعدة البيانات المتعلّقة بهذه الظواهر بشكل غير مسبوق، وتأسيس مقاربة علمية لدراستها. إذ تجمع أجهزة المرصد معلومات من السماء على مدار الساعة، لكن في معظم الأحيان، كما في حال أجهزة رصد النيوترينو، لا يحدث ما يستدعي الانتباه.
تعتمد الخطة على البرمجيات لأداء الجزء الأصعب من المهمة، أي فرز الظواهر الجوية المألوفة والتركيز فقط على الحالات غير المفسّرة، لإحالتها لاحقاً إلى فريق “غاليليو” أو الجمهور المتابع لتحليلها بشكل أعمق و تستخدم دوميني وكلويت برامج رؤية حاسوبية مفتوحة المصدر شبيهة بتلك المعتمدة في السيارات ذاتية القيادة، غير أن مشروع “غاليليو” يواجه تحديات مختلفة. إذ أن النهج التقليدي في التعلّم الآلي يقوم على تدريب الحاسوب من خلال عرض عدد هائل من الصور لأشياء معروفة، كأن تعلّمه التعرف إلى القطط عبر عرض عدد هائل من صور القطط عليه. لكن هذا الأسلوب لا يصلح مع الظواهر الشاذة، لأنها لا تُعرّف بسمات ثابتة، وقد تكون شيئاً لم يرَه البشر من قبل.
قال كلويت “نحن لا نعرف ما الذي نبحث عنه، ولا كيف يتحرّك. وهذا هو جوهر المشروع: أن نصل إلى تعريف لماهية الظواهر الشاذة غير المُعرّفة” لذلك، تعمل دوميني وكلويت، إلى جانب فريقهما المكوّن من ثلاثة موظفين دائمين في المرصد ونحو 12 متطوعاً متناوباً، على تدريب البرمجيات للتعرّف إلى كل ما هو مألوف في السماء، حتى تتمكن لاحقاً من رصد الظواهر الشاذة بدقة أكبر. بمعنى آخر، تتعلّم النماذج البرمجية ما هو ليس قطة لتتمكن من التعرّف على قطة حين تراها.
إحصاء للسماء
وفي هذا السياق، يقود كلويت مشروعاً لإنشاء قواعد بيانات ضخمة تضم صوراً واقعية وأخرى مولّدة رقمياً لكل الأجسام الجوية المعروفة، ويصف هذا الجهد بـ”إحصاء للسماء” ، تعتمد قاعدة البيانات على صور جوية سبق أن التقطها المرصد. ولإثرائها، يستخدم كلويت برنامج الرسوم المتحركة مفتوح المصدر “بلندر” (Blender)، وهو البرنامج الذي استُخدم في فيلم الرسوم المتحركة الحائز على جائزة الأوسكار (Flow)، لتوليد مئات آلاف الصور الاصطناعية لطائرات وطيور وطائرات مسيّرة وبالونات ومناطيد وأجسام جوية أخرى.
على سبيل المثال، حرص كلويت في حالة الطائرات والطيور على تضمين نماذج وأنواع متعددة، بارتفاعات وزوايا ووضعيات مختلفة، كطائرة بعجلات هبوط مطويّة وأخرى بعجلات ممتدة، أو طائر في مراحل متعدّدة من حركة جناحيه.
جمع كلويت هذه الصور ضمن مشاهد سماوية كثيفة سريالية، لتغذية نموذج الرؤية الحاسوبية. وقد جرت جلسات التدريب على دفعات امتدت بين 12 و24 ساعة، باستخدام منظومة “كانون” (Cannon) للحوسبة المتقدّمة التابعة لهارفرد، وهي شبكة ضخمة من الخوادم المترابطة ومعالجات الرسومات المتطوّرة المصمّمة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، موزّعة على ثلاثة مراكز بيانات في المنطقة.
ورغم حيازة فريق “غاليليو” لتقنيات متقدّمة، فإن وتيرة العمل ما تزال بطيئة. لكن الفريق استفاد من تدفّق عدد من المتطوعين المتحمّسين للمشاركة بالمشروع. من بينهم أنكيت بيسواس، طالب في المرحلة الثانوية من مدينة شارلوت بولاية نورث كارولاينا، بادر إلى التواصل مع لويب دون مقدمات في مارس من العام الماضي.
قال بيسواس: “لم أكن أعلم أن هناك أبحاثاً جادة تُجرى في هذا المجال. لطالما ربطته بثقافة هامشية، بعالم يختلط فيه العلم بالعلم الزائف”. بالنسبة لبيسواس الذي فاز بجميع جوائز معارض العلوم في ولايته، شكّل المشروع فرصة تتناسب مع قدراته وحماسه. وقد تولّى مهمة معالجة بيانات المواقع من أجهزة الإرسال في الطائرات، ومقارنتها بالصور التي تلتقطها كاميرات المرصد. وكان ينجز عمله ليلاً وفي عطلات نهاية الأسبوع، بحسب ما يسمح به جدول دراسته.

عوائق وتحديات
عموماً، تُعدّ الطائرات من أسهل الأجسام التي يمكن تدريب البرمجيات على التعرف عليها، نظراً لانتظام سرعتها ومساراتها وانعطافاتها، فضلاً عن بيانات أجهزة الإرسال التي كان بيسواس يعالجها. في المقابل، قال كلويت إن الطيور تشكّل تحدياً أكبر، بينما تُعدّ الحشرات بحركتها السريعة والعشوائية وقربها من عدسة الكاميرا “كابوساً حقيقياً”.
كما يواجه برنامج رصد الأجسام المستخدم، والمعروف باسم (You Only Look Once)، صعوبة في تمييز السحب والغبار وأوراق الشجر المتطايرة في الأفق، وكذلك في التعامل مع وهج الشمس، الذي يخطئ أحياناً في تفسيره على أنه جسم طائر. (اللافت أن نظام الرؤية لدى الإنسان قد يقع في أخطاء مشابهة، ما قد يفسّر بعض الظواهر الغامضة التي أبلغ عنها الشهود على مرّ السنين).
الهدف تطوير برامج مخصصة لكل أداة من أدوات الرصد، ثم مزامنتها، بحيث يتمكن المرصد بكامله من الاستجابة للبيانات لحظياً. فعندما تلتقط إحدى المجسّات، مثل الكاميرا التي تغطي كامل السماء، أو مصفوفة الأشعة تحت الحمراء، أو حتى الميكروفون، إشارة مثيرة للاهتمام، تتوجّه كاميرا مقرّبة تلقائياً نحو تلك البقعة من السماء، ويبدأ باقي النظام في حفظ البيانات التي يتم تسجيلها. (إذ إن حفظ كل البيانات باستمرار من شأنه أن يستهلك سعة التخزين بسرعة فائقة).
برغم أن المرصد بدأ يجمع البيانات منذ 2023، فإنه ما يزال في ما يُسمى مرحلة “التهيئة التشغيلية”، إذ يعمل كلويت ودوميني وآخرون على ضمان قدرة النماذج البرمجية التي يطورونها على أداء المهمة الأساسية، وإن بدت بسيطة، وهي التمييز بين الإشارات الحقيقية والضوضاء.

البنتاغون يبحث أيضاً
في يناير، نشرت دوميني ورقة بحثية شاركت في تأليفها إلى جانب كلويت ولويب وبيسواس، وعدد من الباحثين الآخرين، تناولت بيانات مصفوفة الكاميرات العاملة بالأشعة تحت الحمراء في المرصد. وقد تمكّن برنامج (You look only once) من التعرّف على 36% فقط من الطائرات التي رصدتها الكاميرات. قالت دوميني “بحسب معايير أبحاثي حول النيوترينو خلال مرحلة الدكتوراه، هذه النسبة ليست عظيمةً”، لكنها تتوقّع تحسناً ملموساً مع الوقت.
أضافت: “ما قمنا به يعبّر عن مستوى الصرامة العلمية الذي نحرص على الالتزام به في دراسة الظواهر الشاذة غير المُعرّفة، وهو المستوى الذي نتوقعه من زملائنا في هذا المجال” ، وترجّح دوميني أن يتمكّن مرصد “غاليليو” خلال عام أو عامين من رصد الحالات الشاذة بدقة عبر مختلف أجهزة الاستشعار الخاصة به، مشيرة إلى أن العمل جارٍ لإنشاء ثلاثة مراصد إضافية في ولايات إنديانا ونيفادا وبنسلفانيا.
يتابع البنتاغون عن كثب أنشطة “مركز هارفرد وسميثسونيان للفيزياء الفلكية”. حتى الآن، عالج مكتب “حلّ الظواهر الغريبة في جميع المجالات” أكثر من 1800 بلاغ عن ظواهر شاذة غير مُعرّفة، ورد معظمها من عناصر في الجيش الأميركي. بعد مطابقة هذه البلاغات مع مصادر بيانات حكومية أخرى، مثل سجلات الأرصاد الجوية وحركة الطيران، توصّل الباحثون إلى أن مئات الحالات يمكن تفسيرها ببساطة على أنها بالونات أو سحب أو طائرات مسيّرة، وغير ذلك من الظواهر العادية.
يشغل جون كوسلوسكي حالياً منصب مدير مكتب “حلّ الظواهر الغريبة في جميع المجالات”، وهو عالم رياضيات ومهندس منتدب من وكالة الأمن القومي الأميركية، حيث ترأس سابقاً فرقاً بحثية في البصريات الكمّية وفي مجالات معقّدة من علم التشفير ، لا ينبع اهتمام كوسلوسكي من شغف بالكائنات الفضائية، بل من ولع أوسع بفكرة “البحث عن إبرة في كومة قش”. ومن بين أبحاثه غير المصنفة سريّة، مشروع لتطوير محرّك بحث غير مرتبط بلغة محددة.
يقول إن فريقه عثر على عدد محدود من الحالات، يتراوح بين 50 و60، تُعد “شواذاً حقيقية” استعصت على التفسير، حتى من قبل العلماء والمهندسين الحكوميين المتعاونين مع المكتب. أضاف: “هناك حالات مثيرة للاهتمام، لا أفهمها رغم خلفيتي في الفيزياء والهندسة وخبرتي في العمل الاستخباراتي، ولا أعرف أي أحد يفهمها أيضاً”.

لم تُكشف أي تفاصيل حتى الآن عن تلك الحالات، لكن كوسلوسكي يؤكد أن هدف مكتبه هو رفع السرية عن أكبر قدر ممكن منها مستقبلاً. ويوضح أن مصطلح “الظواهر الشاذة غير المُعرّفة” لا يعني بالضرورة مركبات فضائية. فيما يخص البنتاغون، القلق الأكبر يتعلق باحتمال أن تكون إحدى القوى المنافسة قد طوّرت سرياً تقنية تفوق بمراحل ما لدى الولايات المتحدة حالياً.
أظهرت الحالات التي كُشف عنها حتى الآن أن تقنيات الاستشعار العسكرية غير مناسبة لأغراض مكتب “حلّ الظواهر الغريبة في جميع المجالات”. فالصور الشهيرة التي سجّلتها طائرات البحرية الأميركية، مثلاً، التُقطت بواسطة كاميرات استهداف بالأشعة تحت الحمراء. ويقول كيركباتريك، المدير السابق للمكتب: “كل أجهزة الاستشعار العسكرية هذه صُمّمت لاكتشاف وتتبع أجسام كبيرة وسريعة مثل الصواريخ والطائرات والسفن، بهدف توجيه الأسلحة نحوها”.
بالتالي، هي غير مخصصة للرصد العلمي. كما أن الطابع السري لمواصفاتها يجعل من شبه المستحيل أن يعمل كلويت ودوميني عليها كما يفعلان. وأضاف كيركباتريك أن هذه الأجهزة تؤدي وظائف حساسة لا يمكن المساس بها، “فلا يمكنك استخدام رادارات الدفاع الصاروخي لتعقّب الطائرات المسيّرة، لأنك بذلك تعطل مهمتها الأساسية في رصد الصواريخ”.
سياسات الهجرة تبعد العلماء
وللتعامل هذا التحدي، تعاون المكتب مع باحثين من “معهد جورجيا التقني للأبحاث” لتطوير منظومة خاصة من أجهزة الاستشعار والبرمجيات، أطلق عليها اسم “غريملين” (Gremlin)، اختصاراً لعبارة نظام استقصاء حكومي متعدد الأطياف قائم على الرادار. برغم أن معظم تفاصيل المشروع ما تزال سرية، فإن المعلومات القليلة المتاحة تشير إلى أن النظام يشمل تجهيزات شبيهة جداً بتلك المستخدمة في مرصد جامعة هارفرد، مثل رادارات وهوائيات راديوية وتلسكوبات ترصد صوراً عادية وتحت الحمراء، إلى جانب الإشعاع الكهرومغناطيسي.
اكتفى كوسلوسكي بالقول إن نظام “غريملين” شُيد في موقع أمني داخل الأراضي الأميركية، شهد عدداً من البلاغات عن ظواهر شاذة غير مُعرّفة.
على غرار فريق هارفرد، يعمل المكتب على تطوير برمجيات مخصصة تعتمد على التعلّم الآلي لرصد الظواهر الشاذة غير المُعرّفة. ورغم تلميح كوسلوسكي إلى أن مشروعهم أكثر تقدماً، إلا أنهم واجهوا تحديات مشابهة. فالمنشأة التي تُختبر فيها المجسّات حالياً، والتي لم يُكشف عن موقعها، شبه خالية من الحشرات، وفقاً لكوسلوسكي، لكن في تجارب سابقة، بدت خوارزمية الرؤية الحاسوبية مشوشة بسبب الجراد.
ما يزال مشروع البنتاغون في مراحله الأولى، وقد لا يستمر طويلاً بما يكفي للإجابة عن الأسئلة الكبرى. ومع ذلك، قال كوسلوسكي في مقابلة في مقرّ البنتاغون، إنه لم يلاحظ حتى الآن ما يدلّ على أن البرنامج سيتأثر بالتخفيضات الحادة التي بدأت إدارة ترمب تطبيقها بقدر من العشوائية، علماً بأن ترمب وعد خلال حملته الانتخابية بمزيد من الشفافية الحكومية في هذا الملف.
عودةً إلى جامعة هارفرد، يبدو أن دوميني وكلويت سيفترقان قريباً. فبرغم عزمهما على الاستمرار في دراسة الظواهر الشاذة غير المُعرّفة، مدّد كلويت زمالته البحثية حتى 2027، بينما تستعد دوميني للانتقال إلى مكان آخر.
لقد تابعت في الأشهر الماضية، بقلق متزايد، عمليات الاحتجاز والترحيل التي طالت باحثين وأكاديميين أجانب على يد السلطات الأميركية. وفي الوقت ذاته، بدأت تلمس تداعيات خفض التمويل الاتحادي للأبحاث العلمية في عهد ترمب، إذ كانت تعتمد جزئياً على بيانات توفرها “الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي”، وقد توقفت الإدارة اليوم عن جمعها ، أدركت دوميني أنه رغم اهتمام الولايات المتحدة المتزايد بنوع البحوث التي تجريها، ما عادت قادرة على مواصلة العمل في البلاد. وجميع الوظائف البحثية التي تتقدم إليها اليوم تقع في دول أخرى.